قلما تأتي على العالم عطلة جماعية، يغيب فيها المسلم في غير الفطر والأضحى، ويغيب فيها المسيحي في غير الكريسماس، ويغيب فيها الموظف والمدير معاً، ويغيب الأطفال عن مدارسهم، والكبار عن أعمالهم، والأمهات عن الأسواق، والرؤساء عن الاجتماعات التي بلا فائدة، والوزراء عن الجولات المفاجئة -المرتَّبة مسبقاً- كأن العالم كله اتفق على هدنة من كل شيء، وعطلة عن كل شيء، سنجلس جميعاً في البيوت؛ ربّات منازل، وأرباب منازل.
في وضعٍ استثنائي جداً كهذا، يعتبره البعضُ موسماً للتنمية البشرية، لمحاضرات البحث عن النفس واكتشاف الذات، للدورات المجانية عبر الإنترنت، لفتح خيبر أو غزو العالم الأول، لتقليل فجوة الأوزون وتضييق الثقب، لإصلاح الكون والعالم والكوكب، والتفكير فيما بعد الكورونا، وكيف سيكون العالم، وأين موضعنا منه.
لا أحد يهتم تقريباً بالوضع الجديد من حيث إننا صرنا في البيوت، وتلك البيوت يسكنها أناسٌ تربطنا بهم علاقةٌ ما: أُبوة، أُمومة، أُخوة، بُنوة، زواج، صداقة.. صرنا معهم تحت سقفٍ واحد منذ سنوات طويلة، كبرنا، ونحن لا ندري عنهم غير أنهم شركاؤنا في المعيشة، أنهم أهلنا بالقضاء والقدر، أردنا الجلوس بجوارهم، قالوا لنا: "قوموا ذاكروا"، وهم يودون لو نجلس معهم طوال النهار والليل، لكن هناك واجبات والتزامات ومستقبل سيضيع إن تركنا الكراسات وجلسنا أمام "الحاج متولي"، سيبدو ضحك أمهاتنا وجداتنا مغرياً لنا لنجلس، لكنهم لن يسمحوا لنا بإكمال الحلقة حتى آخرها، لأن الصباح رَباح، والمدارس تفتح من السابعة.
كنا ننتظر الإجازة بفارغ الصبر، لكن الإجازة ليست غير يومٍ في الأسبوع، أو ثلاثة أشهر في السنة، الإجازة الأسبوعية سنجد فيها السيد الوالد يستيقظ في التاسعة، يكلف أحدَنا بإحضار الإفطار، سيذهب أحدنا ذلك إلى محل الفول والطعمية بعد أن يتعصب عليه أبي، سيعود بعد أن يشيب أبي ويبلغ أخي الأصغر الحُلُم، سيقول إنه الزحام، وسينفخ أبي متمتماً بكلمات نحفظها عنه حين يتعصب، سيروق الجو، وتحضّر أمي الإفطار بسرعة البرق، يدفعنا أبي إلى مساعدتها في إحضار الأطباق، سنتناول الإفطار في حين تعد جدتي الشاي بجوارنا وهي تفطر، ونتشاكس، وتضحك أمي راجيةً من أبي العفو عنا، سنضحك، وبعد عشر ساعاتٍ سينتهي اليوم، راجين أن يبقى أبي ولا يذهب إلى العمل، ونعِدُه بأن نكون مؤدبين، لكن عجلة الإنتاج تحكم، ولن نلقى أبي على الإفطار إلا بعد ستة أيام أُخر.
في الإجازة السنوية من المدارس بالنسبة لنا، لن يغيب أبي عن عمله، لن يستطيع، لن يأخذ عطلة، ربما يستأذن عدة أيامٍ لمصيفٍ قصير، سينتهي ونتمنى لو كان بإمكان أبي البقاء أكثر، أحببناه في تلك الأيام السريعة، اكتشفنا أنه شخص لطيف، ربما نودُّ المكوث معه فترة أطول، لمّة الأسرة بعد العشاء جميلة، والسهر أمام التلفاز له مذاقٌ مختلف، والجلوس في حجر جدتي بينما نشاهد "لن أعيش في جلباب أبي"، يجعلنا نتمنى لو نعيش نحن في جلباب أبي إلى آخر العمر.
فجأة حين كبرنا، حدثت المعجزة، وقالوا لنا ابقوا في منازلكم، لا تخرجوا، كأنهم حققوا لنا الأمنية الأزلية التي كنا نرددها "ماذا لو يتوقف العالم؟"، فها هو يتوقف، وها هو رغم قسوته يمنحنا مع البلاء فرصةً للعودة، وكانت أول مرةٍ نقول فيها للزمان "ارجع يا زمان"، فيسمع الكلام، ويرجع.
هذه هي أول مرةٍ في عمرنا، ربما لن يكررها التاريخ لجيلٍ غيرنا، على الأقل خلال العقود القادمة أو القرن الحالي، صرنا مطالَبين بالجلوس وفقط، بالبقاء في الدفء، لكننا وجدنا أسياد العالم المثقف ينادوننا ويقولون: "قوموا ذاكروا"، "عاجل: دورات مجانية"، "الحقوا كل الكورسات نزلت ببلاش"، "فرصة لا تفوتها: كورسين وعليهم التالت هدية"، "تعلّم في ستة أيام"، "كيف تستغل الحجر الصحي في تنمية نفسك؟".
وعلى الجهة الأخرى، كان أهلنا ينادوننا هذه المرة: "لا تقوموا، لا تذاكروا"، ابقوا، ماذا سيحدث لو تركتم المنافسات المحمومة على عدد الدورات التي اشتركتم فيها؟ ماذا لو تركتم الجميع يتسابقون على طلب العلم، في حين جلستم أنتم هذه الأيام لا تطلبون إلا القرب؟ ماذا لو بدلاً من البحث عن عوالمكم وجدتمونا؟ نحن أمامكم، فقط انظروا في عيوننا، وستجدون عوالمكم كذلك، ماذا لو تركتم "البحث عن الذات"، وبحثتم عنا؟ ستجدون ذواتكم في ضحكاتكم حين نكون معاً.
ستكثر المغريات من أصحاب العالم المثالي، سيصوّرون لك كل شيء على وشك النفاد، سيُخيَّل إليك أن الجميع لا بد أن يخرج من العزل مسلحاً بألف دورة وكتاب، ستخاف أن تخرج صفر اليدين بينما يحملون هُم حقائب العلم والإيمان، ستنام وتصحو وكل همّك الكورس التالي، لكن صدِّقني، الشيء الوحيد الذي ستجده يستحق أن تنام وتصحو عليه، هو الذين تحبهم أنفسهم، ويشاركونك الطبق ذاته في البيت نفسه، تحت سقفٍ واحد.
أحدّثكم من الجانب الآخر، المحروم من كل هذا، راجياً عقولكم وقلوبكم أن تسمعوا، أن تعوا الدرس، أن تدركوا دفء البيوت وحنان ساكنيها، أن تتركوا الهواتف جانباً، وتتركوا مواقع تقديم الدورات المجانية، وتتركوا المنافسات اللانهائية بين أهل العلم، لفترةٍ وجيزة، هذه الدعوة لها تاريخ صلاحية بالتأكيد وسيحين وقت انتهائه، لذا، سارِعوا إلى بيوتكم، تعرَّفوا إلى أهلكم، تجنَّبوا كل ما يشغلكم عنهم، دعوا المحاضرات والأنشطة والندوات، فهذا وقت "الأنتخة".
الآن، دعوةٌ إلى التخاذل والكسل، إلى راحة الأذهان وإعطاء فرصة النشاط للقلوب، إلى استغلال الفرصة قبل أن تفوت، إلى التجمع أمام "فاطنة وعبغفور"، إلى الضحك أمام الحاجة فاطمة تعلبة، إلى مشاهدة ونيس ومايسة، إلى "السخسخة" أمام "الكبير"، إلى ذئاب الجبل وحديث الصباح والمساء.
دعوة إلى السهرات الصاخبة بينما يغلق التلفاز، وتوزَّع الأوراق، ونقول إنه وقت "الكوتشينة" أو "الدومانا"، إلى الساعات الدافئة الممتلئة بحكايات الأب ومغامراته، إلى النوادر التي يقصها للمرة المليون ولا نمل منها، إلى الضحكة المرسومة على ستة أفواه في وقت واحد، إلى برتقال الأم الذي لا ينتهي، وحديقتها من الفاكهة التي ترعاها في بابٍ سريّ بالثلاجة، إلى العصير الطبيعي، والشاي المغليّ، ورؤية الحياة تغدق عطفها، في مرةٍ نادرة.
أرجوكم، لا تهجروا الدفء، اجعلوا ذلك موسماً للقرب والحب، للود الذي لا ينضب، للتنعُّم بجوار الذين تحبونهم، لا تشغلوا عقولكم بعدد الكتب التي أنهاها أصحابكم، ولا عدد الشهادات التي حصلوها، ستودون رمي هذا كله في أقرب صندوق قمامة حين يرحل الذين تحبونهم، ستلعنون الحياة التي تأخذكم منهم، وتخطفهم منكم، لكن حينها ستلعنكم الحياة نفسها كذلك، لأن الزمان حين وهبكم هدنةً تاريخية، نظرتم إلى وجوهٍ أخرى غيرهم، وملأتم عيونكم بالكلام عبر الشاشات، في حين كانوا يحتاجون إلى أن تملؤوا آذانهم هُم بالكلام عبر اللسان، دون مسافاتٍ بينكم.
فلتحترق الشهادات، ولتبلى الدورات، وليؤجَّل كل شيء هذه المرة، ذلك أوان القلوب لا العقول، وأوان التبسُّم لا التجهُّم، وأوان الذكريات لا المذاكرة، وأوان الطبلية لا المكتب، وأوان الصالون الجامع لا الغرف المتفرقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.