لم تتعرض صناعة كرة القدم العالمية لكارثة اقتصادية في تاريخها الطويل مثلما تتعرض له حالياً في مواجهة جائحة فيروس كوفيد-19، الذي أوقف كل المسابقات في كل الدول والقارات.
في البداية، لا بد أن نعلم أن كرة القدم تحولت منذ ستينات القرن الماضي إلى صناعة تُحقق الأرباح وتتطور وتنمو، حتى باتت واحدة من أكبر الصناعات في العالم على صعيد الميزانيات والأرباح. وبعد أن ارتفعت شهقات الجميع دهشة من إسراف نادي برشلونة الإسباني الذي دفع مليون دولار في عام 1973 لشراء النجم الهولندي يوهان كرويف من نادي أياكس الهولندي، أصبح انتقال البرازيلي نيمار من برشلونة إلى باريس سان جيرمان الفرنسي مقابل 222 مليون يورو (265 مليون دولار) أمراً لا يثير دهشة أحد.
انفجار الصناعة الأمتع في العالم
ولكن صناعة كرة القدم تطورت بشكل منطقي ومتدرج في الستينات، حتى شهدت الانفجار في التسعينات، انفجاراً في أسعار اللاعبين والمدربين وفي عائدات وحقوق البث التلفزيوني وعقود الرعاية والدعاية، وكذلك شهدت انحرافاً في توزيع ميزانيات ومصروفات الأندية.
وتعالت صرخات خبراء الاقتصاد من ذلك الانفجار والانحراف، خشية التأثير السلبي على تلك الصناعة، خاصة بعد أن انقسمت الأندية حول العالم (لاسيما في الدول الكبرى أوروبياً وآسيوياً وإفريقياً) إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول يضم الأغنياء، ويتنافسون على الألقاب العالمية والقارية والمحلية، أمثال برشلونة وريال مدريد في إسبانيا، ومانشستر سيتي وليفربول وتشيلسي ومانشستر يونايتد (مشاكله إدارية وليست مالية) في إنجلترا، وبايرن ميونيخ الألماني، ويوفنتوس الإيطالي، وباريس سان جيرمان الفرنسي.
والقسم الثاني يضم الأندية القادرة مالياً، ولكنها ليست بثراء أندية القسم الأول، مثل إشبيلية وفالنسيا وأتلتيكو مدريد في إسبانيا، وأرسنال وتوتنهام هوتسبير وليستر سيتي في إنجلترا، وبروسيا دورتموند ولايبزغ في ألمانيا، وليون وموناكو ومرسيليا في فرنسا، وإنترميلان ونابولي ولاتسيو وروما وميلان في إيطاليا، وبنفيكا وبورتو في البرتغال، وأياكس الهولندي، وهي تنافس فقط على الألقاب المحلية بلا أي طموح قاري، إلا مجرد الاقتراب من الأدوار النهائية.
وتقبع بقية الأندية في مناطق الوسط والهبوط، وتقتصر طموحاتها على الاستمرار في المسابقات العليا، أو التأهل إلى المسابقات الأوروبية. وتلك الأندية محدودة الدخل عاجزة تماماً عن حماية لاعبيها الأكفاء من إغراءات الأندية الغنية أو المتوسطة. ولكنها تستفيد من الأرقام الضخمة التي تدفعها أندية القسم الأول من الأغنياء لشراء لاعبيها، لتشتري بها لاعبين من أندية أصغر أو من القارات الأخرى الفقيرة مالياً، لاسيما من إفريقيا.
الشاهد مما سبق أن صناعة كرة القدم انحرفت تماماً في السنوات الـ22 الأخيرة، لتبقى كل ألقابها الكبرى موزعةً بين ثمانية أندية عملاقة، أبطال أوروبا من 1998 إلى 2019 هي: ريال مدريد (7)، وبرشلونة (4)، وليفربول (2)، ومانشستر يونايتد (2)، وميلان (2)، وبايرن ميونيخ (2)، ولقب وحيد لكل من تشيلسي وإنتر ميلان، مع مفاجأة يتيمة لبورتو البرتغالي في 2004.
ولأن لغة الأرقام لا تكذب ستجد أن ألقاب نفس المسابقة قد وُزعت بين 15 نادياً خلال السنوات الـ22 التي سبقتها من 1976 إلى 1997. وهي ليفربول (4)، وميلان (3)، ونوتنغهام فورست (2)، ويوفنتوس (2)، ولقب وحيد لكل من برشلونة وبايرن ميونيخ وبروسيا دورتموند وأياكس ومرسيليا وردستار اليوغوسلافي وأيندهوفن الهولندي وبورتو وستيوا بوخارست الروماني وهامبورغ الألماني وأستون فيلا الإنجليزي. والمؤسف أن بين تلك الأندية من اختفى نهائياً من الساحة محلياً وليس قارياً فقط، مثل نوتنغهام فورست الإنجليزي.
كورونا وحركة التصحيح
ولأن لكل عملة في الدنيا وجهين.
ربما يكون لفيروس كورونا وجائحته المدمرة أثر إيجابي على صناعة كرة القدم في المستقبل القريب. خاصة بعدما استوعب كل أطراف اللعبة الدرس سريعاً في أقل من ثلاثة أسابيع. وعرفت شركات البث أنها تدفع أرقاماً خيالية لا طاقة لها بتعويضها مع أول أزمة. وكذلك أدركت الأندية شذوذها في دفع 70% من ميزانياتها كرواتب للاعبيها ومدربيها. وأيقنت أن الأسعار الباهظة التي تورطت فيها بشراء لاعبين كانت وبالاً عليها.
وحتى اللاعبون علموا أنهم لا يستحقون المبالغ التي يتقاضونها، ووافقوا دون تردد على تخفيضها في زمن الجائحة. بل وافق لاعبو يوفنتوس على عدم تقاضي أي رواتب على مدار أربعة أشهر متتالية (البرتغالي كريستيانو رونالدو يستحق وحده 3.8 مليون يورو خلال تلك الفترة). ونفس الدرس ذهب إلى شركات الرعاية والدعاية، التي تمادت في سباقاتها لرعاية الأندية واللاعبين، حتى تجاوزت حدود المئة مليون دولار للفوز برعاية لاعب واحد فقط.
الجائحة الجامحة ستنقضي بإذن الله في وقت قريب، وإن طالت شهراً أو اثنين أو ثلاثة.. إلا أنها ستنقضي، وستعود كرة القدم للدوران، ومعها مسابقاتها القارية والمحلية، ولكن بشكل جديد يتناسب مع حجم الانهيار الاقتصادي الذي ضرب العالم كله في مقتل.
لن تجد لاعباً يزيد سعره عن 50 مليون يورو، ولن يدفع نادٍ راتباً للاعب أو مدرب يتجاوز المليون شهرياً (راتب الأرجنتيني ليونيل ميسي في برشلونة يتجاوز 3 ملايين).
ستعود الأسعار والنفقات والميزانيات لسابق عهدها. وهو الأمر الذي سيغير خريطة التنافس محلياً وقارياً في كل بلاد العالم، لاسيما الدول الأوروبية الخمسة الكبرى: إنجلترا وإسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا.
لكن تلك التغييرات الاقتصادية ستُعيد جموح قطار صناعة كرة القدم إلى القضبان، وستكون تأثيراتها على مستوى الأندية فقط دون المنتخبات. وستبقى المنافسات القارية والمحلية قاصرة على الدول العريقة.
كورونا.. أيها الفيروس الصغير.. ماذا فعلت بعالمنا؟
علاء صادق هو ناقد رياضي مصري وحكم كرة قدم محلي سابق.
له 58 كتاباً رياضياً فى الاسواق، ظهر أولها عام 1974 بعنوان "الدورى المصري تاريخ وحقائق"
أسس 9 صحف رياضية أشهرها أخبار الرياضة وميدان الرياضة وساهم فى تأسيس 3 قنوات رياضية ابرزها ART.
عضو سابق فى لجنة الاعلام بالاتحاد الافريقي وعضو سابق فى الاتحاد الدولي لتاريخ وإحصاءات كرة القدم.