لا تشبه أزمة الفيروس المتحوّل كورونا أياً من الأزمات الوبائية السابقة. لا القديمة مثل الطاعون والكوليرا والحصبة، ولا المعاصرة مثل سارس وإيبولا، فقد استشرى بشكل غير مسبوق على نطاقات واسعة، تصل تقريباً إلى كل بقعة في الأرض، فلم يعد مجرد وباء، وإنما بات أزمة كبيرة شاملة، تضرب العالم كله بالتزامن، وتهدّد الجنس البشري في كل مكان.
وشأن أي أزمة تعصف وتكشف، عصف كورونا بعنجهية قادةٍ صاروا يخشون على حياتهم الشخصية، مثل أي فقير معدم. وكشف زيف كبرياء (وغرور) حكومات وشعوب لم تعد تملك من أمر نفسها شيئاً. حتى صارت دول صغيرة أو فقيرة في أفريقيا أفضل حالاً وأكثر أماناً من قوى عظمى، مثل الصين والولايات المتحدة وبريطانيا. ليس لافتقاد الإمكانات أو التمويل، وإنما لأن الأزمة أضخم وأكبر من قدرة أي دولةٍ على مواجهتها بنجاح كامل في وقت قياسي.
ثمة تناقض هنا يدعو إلى التأمل، فالدول الأقل مساحة وسكاناً، وأيضاً الأضعف إمكانات وتقدّماً، هي الأكثر أماناً والأقل إصابات وانتشاراً للفيروس. والأمثلة كثيرة، منها سوازيلاند وكوبا، لأنها أقل احتكاكاً وتفاعلاً مع بقية الدول. ما يعني أن الدول المنغلقة والضعيفة، بحكم محدودية قدراتها ومواردها، هي الأقل تضرّراً من الأزمات والكوارث العابرة للحدود. وفي المنطقة الرمادية بين الدول العظمى والصغرى، تلاعب كورونا في سخريةٍ مُرّة، بمن قفزوا إلى السلطة في غفلةٍ من شعوبهم محدودة الوعي والثقافة، فكشف كورونا فشل هؤلاء المتسللين في إدارة الأزمة، وفضح وعودهم الكاذبة للشعوب بمستقبل زاهر ومكانة متقدّمة. كان الاصطدام بالواقع كفيلاً بكشف القدرات الحقيقية لتلك الحكومات أمام مواطنيها قبل بقية العالم.
وأول ما تكشف في تلك الأزمة، أن الهياكل والمؤسسات والجيوش الجرّارة من وزراء ومسؤولين ومديرين ومشرفين ومستشارين، ليسوا سوى شخصيات كرتونية لا حول لها ولا قوة، حتى وإن امتلكوا، كأفراد، قدرات وإمكانات عالية. وليس أدل على ذلك، من عدم قدرة أي قيادة أو صاحب منصب على اتخاذ أي قرار مهما صغر، في نطاق اختصاصه وتحت صلاحياته.
وكان هذا الوضع سيبدو مفهوماً ومبرّراً، لو أن لجاناً عليا شُكلت أو خلايا أزمة أُنشئت لإدارة الأزمة. وهو ما قامت به الدول الكبرى، على الرغم من أن قراراتها وسياساتها مؤسسية أصلاً، ولديها خطط مسبقة للتعامل مع كل أنواع الأزمات والكوارث. أما في معظم بلداننا العربية، وفي غيرها من دول العالم المتأخر، فلا تُرك الأمر لأصحابه أهل الاختصاص الدقيق، ولا أُحيل إلى مجموعةٍ متنوعة الاختصاصات، ليكمل بعضهم بعضاً. وبدلاً من أن يكون الأداء الرسمي على مستوى الحدث، وأكثر وعياً وحنكة وحزماً مع مجتمعات أقرب إلى البدائية والتخلف، جاء التعامل الحكومي على قدر المستوى الشعبي المتدنّي معرفة ووعياً وثقافة وتحضراً.
ولأن التحدّي ضرب الجميع، لم يستثن الانكشاف أيضاً أحداً، فلم يقتصر سوء إدارة الأزمة على دول عربية فقط، فتباطؤ الحكومة الإيطالية مع الاستهانة الشعبية هو ما سمح بإصابة آلاف ووفاة مئات منهم. وها هي إسبانيا تتجه إلى الهاوية نفسها، ما لم تستدرك الموقف سريعاً.
الأزمة، إذن، ليست في الوفرة المالية أو التقدّم الصناعي، وإنما في ثقافة التواكل لدى الشعوب، وعصاب النرجسية والتعالي عند الحكام. وليس مصادفةً أن تصدر هذه العشوائية، من بين كل الدول الشرقية والغربية، عن روما ومدريد، فهما الأكثر قرباً وتشابهاً في النسق الثقافي والعادات الشخصية، مع شعوبنا القابعة في جنوب المتوسط. ولكن الفارق المهم أن الحكومة الإيطالية، ونظيرتها الإسبانية، ستدفعان غالياً ثمن إدارتهما الأزمة. بينما في الشاطئ الجنوبي من البحر، من يدفع الثمن دائماً هو الشعب، وليس له من دون الله نصير ولا سند.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.