سموم لم تصل إلى الجمهور
بعد قراري عدم تجديد عقد الأستاذ محمد عل خير، طلبت من الأستاذ ماهر عبد العزيز، مدير "راديو مصر"، أن يطلعني باستمرار على أي "مشاريع برامج" يُزمع إطلاقُها، وفق نظام "الرعاية"، أو التمويل الخارجي، وقد كان.
ذات صباح، اتصل بي الأستاذ ماهر ليخبرني بأن هناك "مشروع برنامج"، سيقدمه مذيع اسمه محمد الغيطي، ولم أكن سمعت بهذا الاسم من قبل لوجودي خارج مصر لسنوت طويلة، فشكرته على المعلومة، ثم بدأت التقصي عن الغيطي هذا، وكان ما سمعته عنه، من مصادر مختلفة، كافياً جداً لأن أتصل بماهر عبد العزيز، وأطلب منه اعتبار مشروع هذا البرنامج كأنه لم يكن، فارتبك ماهر كعادته، وظل يلف ويدور!
فهمت من حديث ماهر أن البرنامج تمت الموافقة عليه بصورة أولية، وأنه تعمَّد التأخير في إبلاغي كي أجد نفسي أمام أمر واقع! غير أني وجهت كلامي له، بلهجة حازمة، وبصيغة الأمر: يا أستاذ ماهر.. مفيش برنامج! بلغ الأستاذين الششتاوي والصياد بما سمعته مني، مفيش برنامج للغيطي. وبالفعل، تم دفن البرنامج، دون جنازة، وبذلك، أعفيت المستمعين من التعرض لـ "سموم" الغيطي الذي قال في إحدى حلقات برنامجه التلفزيوني، بعد الانقلاب، بكل صفاقة: "إن الإخوان المسلمين هم الذين أسقطوا الأندلس"!
صراع الإرادات
في 18 يونيو/حزيران 2013 نشرت صحيفة الأهرام خبراً، تحت عنوان "جمعة لا للعنف.. بداية تحرك الإسلاميين دعماً لشرعية الرئيس قبل يوم 30 يونيو"، جاء في مقدمته: "تستعد القوى الإسلامية لإطلاق أول تحركاتها الشعبية، استعدادًا ليوم 30 يونيو، من خلال التوافق العام الذي تم ظهر اليوم على جمعة "لا للعنف" يوم 21 يونيو، حيث استقرت تلك القوى على الإبقاء على مُسمى الجمعة بدلاً من المسمى الآخر المقترح "جمعة دعم الشرعية" للرد على مزاعم القوى المدنية، بوجود نية لدى أنصار التيار الإسلامي لاستخدام العنف في هذا اليوم الذي يبدو أنه فاصل في حياة المصريين".
استعدت خمسٌ من قنوات ماسبيرو لتغطية فعاليات ذلك اليوم التي تقرر أن تبدأ بعد صلاة الجمعة مباشرة. أديت صلاة الجمعة وتوجهت إلى ماسبيرو قاصداً مكتب رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون. وهناك ألقيت نظرة على الشاشات التي تغطي أحد حوائط المكتب الفسيح. فمن خلال هذه الشاشات يمكن لرئيس الاتحاد متابعة قنوات ماسبيرو كافة في آن واحد، فإذا استرعى انتباهه شيء على إحداها فما عليه إلا أن يرفع صوتها، ويتابع ما يدور على شاشتها صورة وصوتاً.
وجدت استعدادات تجري على الشاشات الخمس؛ إذ توزعت كاميراتها ومراسلوها على أماكن مختلفة في القاهرة، لتغطية وقائع "جمعة لا للعنف" المرتقبة، بينما شرَع فنيوها في تثبيت "المايكات" في سُترات الضيوف (الذين سيعلقون على الأحداث)! وهذا يعني أن "بث السموم" سينطلق من خمس قنوات في آن واحد، ولن يمكنني بأي حال متابعة كل هذه القنوات معاً، فإن أوقفتُ واحدة أو اثنتين، فستبقى أربع أو ثلاث!
والحال كذلك، طلبت من الأستاذ شكري أبوعميرة الذي كان يتولى منصب رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون بالإنابة، ضم القنوات الأربع إلى "القناة الأولى"؛ لتنقل هذه القنوات ما تبثه القناة الأولى، من محيط المنصة بمدينة نصر، حيث الجموع التي استجابت لدعوة القوى الوطنية المؤيدة للرئيس مرسي. فقال لي الأستاذ ابراهيم الصياد: ولكن هذا الإجراء من شأنه أن يصادر وجهات النظر الأخرى فلا يتمكن أصحابها من إبدائها! فقلت له: أصحاب هذه الآراء (المعارضة) تم توزيعهم بعناية واضحة؛ كي يحتلوا أربع شاشات! أما مؤيدو الرئيس فقد خصصتم لهم شاشة واحدة! يعني قناة واحدة للحكومة مقابل أربع قنوات للمعارضة! متى وأين سمعت بمثل هذه القسمة الضيزى (الظالمة الجائرة، المنافية للحق)؟! أما بالنسبة لحرية الرأي فهذا يمكن أن نناقشه على الغداء (الذي كان قد وُضِع على طاولة كبيرة في مكتب رئيس الاتحاد)!
ثم التفتُ إلى الأستاذ شكري أبوعميرة ووجهت له حديثي: من فضلك أستاذ شكري ضُم القنوات التي تغطي الأحداث إلى القناة الأولى. فقام الأستاذ أبوعميرة من فوره بتوجيه الأمر إلى الفنيين، على النحو الذي بيَّنتُه، وما هي إلا دقائق حتى انضمت القنوات الأربع إلى "القناة الأولى" التي كانت تبث من محيط المنصة بمدينة نصر. ثم توجهنا إلى الطاولة حيث طعام الغداء، وقد حضر هذا الموقف رؤساء القطاعات التلفزيونية وعدد من رؤساء القنوات.
محاولات لتعطيل القرار
فوجئت "الجهات السيادية" التي تدير ماسبيرو، من وراء ستار، بقراري هذا، ومن الطبيعي أن تصدر توجيهاتها لمعاونيها من مسؤولي ماسبيرو أو "بيت النمل"، بعمل كل ما يمكن القيام به لتعطيل قراري الذي أزعج هذه الجهات أشد الإزعاج!
حان وقت إذاعة نشرة الأخبار، فجاء الأستاذ أبوعميرة يستأذنني في قطع البث المباشر لإذاعة نشرة الأخبار. فسألته: ماذا تعني الأخبار؟! فأجاب إجابة مَن لم يفهم السؤال: الأخبار.. سعادة المستشار! فسألته مُجدداً، أليست الأخبار تعني نقل أو عرض ما يجري من أحداث إلى المشاهدين؟ فأجاب: نعم. فسألته للمرة الثالثة: أليس هذا البث المباشر هو نقل لحدث (حيّ) يهم كل المصريين الآن؟ فقال: نعم. فسألته للمرة الأخيرة مبتسماً: وما قيمة الأخبار المُعلبة التي أذيعت اليوم، أكثر من مرة، إلى جانب هذا (الخبر الطازج)؟! فسكت. فاستطردت قائلاً: لا تقطع البث، ولا تُذِع نشرة الأخبار!
انكمش الأستاذ أبوعميرة، ولعله كان يفكر فيما ينتظره على يد تلك الجهات السيادية التي كلفته بقطع البث المباشر، ولم يستطع! ثم حان وقت إذاعة أذان العصر، فجاءني الأستاذ أبوعميرة، يستأذنني من جديد، في قطع البث المباشر؛ لإذاعة أذان العصر. فسألته: ألا ترى وتسمع آذان العصر في البث المباشر؟ فقال: نعم. فقلت له: فما الداعي لقطع أذان البث المباشر، كي نذيع أذاناً مسجلاً؟! فابتسم في ذهول، وسكت!
ظلت القنوات الخمس تنقل بثاً مباشراً موحداً (دون انقطاع)، من بعد صلاة الجمعة، حتى صلاة العشاء، وللحق والتاريخ أقول: إن هناك من الخطباء الذين اعتلوا منصة الخطابة يوم ذاك، مَن كان دون مستوى المسؤولية، فقال كلاماً غير مسؤول! وبعد نقل صلاة العشاء، طلبت من الأستاذ أبوعميرة قطع البث المباشر وفصل القنوات والعودة إلى الحالة الطبيعية.
توظيف مفاجئ!
ذات يوم شعرت بألم في قلبي، تقل حدته أحياناً، وتزداد أحياناً، ولما لم يتوقف الألم، توجهت إلى فرع مستشفى "الجمعية الطبية الإسلامية" التابعة للإخوان المسلمين، الكائن في مدينة نصر. وهناك خضعت للفحص، ثم أخبرني الدكتور (ط) بحاجتي إلى دعامات، وأوصى بمراجعة مستشفى "المقاولون العرب" لتركيب هذه الدعامات، فسألته: كم تتكلف هذه العملية تقريباً، فأجابني: حوالي خمسة وثلاثون ألف جنيه! ولم يكن معي من هذا المبلغ سوى ألف جنيه فقط!
ذهبت إلى الرئاسة في اليوم التالي، وهناك التقيت زميلي الدكتور سامح العيسوي، شفاه الله وعافاه (الذي أسس وحدة الرصد من جيبه الخاص)، وكان أستاذاً للمناظير بالقصر العيني، فسألني: ما بك؟ يبدو عليك الإرهاق والتعب! فقصصت له ما جرى. فذهب من فوره وحدث زميلنا المستشار (ع م) بما سمع مني، وفي اليوم التالي، صدر قرار تعييني (رسمياً) برئاسة الجمهورية.
ما فهمته، أن الزملاء عملوا على إصدار قرار "تعييني"؛ كي أتلقى العلاج في مستشفى "وادي النيل" التابع للمخابرات العامة، بمبلغ رمزي، مع خدمة لا تتوفر إلا في أرقى المستشفيات الخاصة بمصر. ومن الطريف أنه أثناء تحضيري (علاجياً) لإجراء "القسطرة الاستكشافية"، داهمتي (ذات مساء) آلام مبرحة، في جانبي الأيمن، فناولني الأطباء منوِّماً، وفي الصباح وجدتني في غرفة العمليات لاستئصال المرارة! ولم أتمكن من عمل القسطرة إلا بعد ثلاثة أسابيع تقريباً، وقد رأي الطبيب يومها أن الشرايين يمكن توسعتها بالعلاج وليس بتركيب الدعامات، وهذا ما كان.
خطة لتطوير ماسبيرو
لم يكن ممكناً أن يستقيم حال ماسبيرو وهو على هذا الحال من الترهل والعشوائية وتدني المستوى، فقررت الشروع في وضع خطة لتطوير هذه المؤسسة السيادية العريقة التي شاخت وباتت عاجزة عن القيام بدورها الهام والحيوي. وبدأت من حيث يجب أن أبدأ، فعقدت سلسلة اجتماعات (منفردة) مع كل القيادات العليا في ماسبيرو على مستوى رؤساء القطاعات ثم رؤساء القنوات، وطلبت منهم طرح رؤيتهم لتطوير ماسبيرو، فاستجاب معظمهم، ومنهم من طرح أفكاراً رائعة.
كانت خطتي لتطوير ماسبيرو تستهدف: المبنى، والعاملين، والتجهيزات، والمحتوى الذي يُبث منه.. وحسب الخطة، فإن هذه العملية (الجذرية الشاملة) لم تكن تكلف خزينة الدولة جنيها واحداً. وقد كلفت جهات (بصورة ودية) بعمل دراسة علمية لذلك التطوير، ومن الطبيعي أن أمتنع عن عرض تفاصيلها إلا في ظل سلطة منتخبة من الشعب تسعى للنهوض بمصر سعياً حقيقياً.
أيضاً وضعت خطة لإزاحة تلك النخبة التي أفسدت أكثر مما أصلحت، لتحل محلها نخبة شابة جديدة، على أسس وطنية لا حزبية ولا أيديولوجية، لا تعرف المجاملة ولا المحسوبية، بل تعتمد على العلم والموهبة واحترام القيم والولاء لمصر أولاً وأخيراً، ولكن الانقلاب كان أسرع.
برنامج ديوان المظالم
ديوان المظالم هو أحد المؤسسات التي أنشأها الرئيس مرسي، رحمه الله، للتواصل المباشر مع المواطنين، وتلقي شكاواهم، والعمل على حلها في أقصر وقت ممكن، وكان على رأس الديوان الأخ العزيز الأستاذ مصطفى الشربتلي. التقينا ذات يوم على الغداء بقصر الاتحادية، وحدثني باستفاضة عن ديوان المظالم وأهدافه، فتفتق ذهني عن برنامج تلفزيوني يحمل الاسم نفسه؛ سعياً لخدمة أهداف ديوان المظالم من جهة، وفتح نافذة جديدة أمام المواطنين للتواصل السريع مع الديوان من جهة أخرى. لقد كان المواطن همَّنا الأول.
بعد الغداء، شرعتُ في كتابة نص "برومو" البرنامج، وقمت بتصميم الاسم، ثم ذهبت في المساء إلى ماسبيرو واجتمعت مع الأستاذ أبوعميرة؛ للتشاور بشأن الترتيبات اللازمة لإطلاق البرنامج، وفي الليلة نفسها ذهبت إلى أحد أستوديوهات الإذاعة مع الأستاذة أماني كمال، المذيعة بالإذاعة؛ لتسجيل البرمو بصوتها، غير أن الانقلاب كان على الأبواب، ووُئِد البرنامج قبل أن يرى النور.
نقل تعسفي!
بعد نحو ثلاثة أسابيع من الانقلاب وصلني وزملائي "المُعينين" في الرئاسة اتصالات على هواتفنا المحمولة تفيد بضرورة مراجعة شؤون الموظفين بقصر عابدين لتسليم (العهدة) وإخلاء الطرف!
لم يكن ممكناً عدم الذهاب إلى عابدين وإلا أصبحنا "مُبددين" لأصول الدولة في نظر القانون، وهذه جريمة مخلّة بالشرف! فكل منا كان بحوزته سيارة مرخصة من إدارة المركبات في رئاسة الجمهورية، تحمل كوداً ثلاثياً خاصاً، يسمح لنا بمعاملة خاصة على الطرق؛ فلا وقوف في الكمائن ولا رسوم مرور.
تواصلنا مع بعضنا بعضاً، باستثناء الدكتور أحمد عبدالعاطي مدير مكتب السيد الرئيس الذي كان معتقلاً حينذاك، ولا يزال حتى كتابة هذه السطور، واتفقنا على يوم محدد وساعة معينة، وذهبنا جميعاً إلى قصر عابدين. هناك قمنا بعمل "إخلاء طرف" بعد تسليم السيارات والكارنيهات التي تخوِّل لنا دخول كافة المنشآت التابعة لرئاسة الجمهورية.
وللتوضيح، فما قمنا به ليس استقالة، بل ولم يطلب منا أحد الاستقالة، لكنه نقل "قسري" أو "تعسفي" من رئاسة الجمهورية إلى رئاسة الوزراء التي قامت بدورها بإصدار قرار يقضي بنقل كل منا إلى الوزارة التي تناسب مؤهله العلمي، وتبعاً لذلك وجدت نفسي في وزارة الثقافة على غير إرادة مني.
أُنهِي هذا المقال، وهذه السلسلة، بهذه المعلومة التي لم يسبق نشرها؛ كي يسجلها التاريخ..
لقد كان عدد الأشخاص المُعينين في رئاسة الجمهورية من طرف الرئيس مرسي ثمانية أشخاص فقط! وهم الذين أشرت إليهم في واقعة النقل التعسفي من رئاسة الجمهورية. وما عدا هؤلاء الثمانية فكل مستشاري الرئيس ومساعديه المعروفين إعلامياً، وغير المعروفين، لم يكن أيٌّ منهم "موظفاً" في الرئاسة باستثناء الدكتور أحمد عبدالعاطي مدير مكتب الرئيس (فك الله أسره).
إن هذه المعلومة تعني أن كل من دخل الرئاسة في عهد الرئيس مرسي الذي لم يتجاوز عاماً واحداً، دخلها "متطوعاً"، وليس موظفاً! ولم يتقاضَ أيٌّ منهم راتباً ولا مكافأة باستثناء هؤلاء الثمانية.
وتعني هذه المعلومة أيضاً أن كل ما أشاعه التيار العَلماني وإعلام الثورة المضادة تحت عنوان "أخونة الدولة" كان كذباً صراحاً، وافتراءً وقحاً على الرئيس الذي خلع رداءه الحزبي والتزامه التنظيمي على باب الاتحادية، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.