يقرض الدول النامية ثم يسمح بسرقة القروض.. كيف يساهم البنك الدولي في إفقار وإذلال الشعوب؟

عدد القراءات
841
عربي بوست
تم النشر: 2020/02/24 الساعة 16:13 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/02/24 الساعة 16:13 بتوقيت غرينتش
يقرض الدول النامية ثم يسمح بسرقة القروض.. كيف يساهم البنك الدولي في إفقار وإذلال الشعوب؟

في 26 أبريل/نيسان 2018، ومن واشنطن أعلن رئيس مجموعة البنك الدولي، جيم يونغ كيم، عن تعيين بينيلوبي كوجيانو غولدبرغ، أستاذة الاقتصاد بجامعة ييل، رئيسةً للخبراء الاقتصاديين بالمجموعة أو كما يسمى المسمى الوظيفي Chief Economist.

وتفاءل كثيرون بهذا التعيين، لأن بيني غولدبرغ تتمتع بخبرات أكاديمية واسعة ودقة فكرية، وحب للاستطلاع والبحث لا حدود لهما. وهي التي قضت حياتها المهنية في دراسة القضايا الاقتصادية الأكثر تعقيداً التي تؤثر على "البلدان النامية".

وتتمتع غولدبرغ، التي تحمل الجنسيتين اليونانية والأمريكية، بسجل إنجازات رائع كواحدة من كبار علماء الاقتصاد الجزئي التطبيقي، ولها عشرات البحوث والمقالات عن البلدان النامية واقتصادها ومشاكل عدم المساواة والأرباح والابتكار وحقوق الملكية الفكرية وإنتاجية الشركات وسوء توزيع الثروة والفساد.

وكما قال رئيس مجموعة البنك الدولي عن تعيينها: "من المتوقع أن تعزز غولدبرغ صلة مجموعة البنك الدولي بأحدث البحوث الأكاديمية وأن تساعد في بلورة رؤية لكيفية تحقيق أهداف المجموعة المتعلقة بتحقيق النمو المستدام، وتعزيز الرخاء المشترك، وإنهاء الفقر المدقع في العالم." لكن لم يمض سوى 15 شهراً على تواجد غولدبرغ في أروقة البنك الدولي قبل أن تقدم استقالتها فجأة ودون أسباب معلنة. مما فتح الباب للكثير من الأسئلة والتكهنات حول عودتها إلى جامعة ييل مرة أخرى.

انتهى شهر العسل 

اعتبرت صحيفة الفاينانشيال تايمز رحيل بيني واستقالتها من منصب كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي مثالاً جيداً لتوضيح ماذا يمكن أن يحدث عندما تجتمع عوالم الإدارة الرأسمالية مع الأكاديمية في غرفة واحدة. إذ عادة ما تكون النتيجة هي الصدام والصراع بينهما. تبحث الإدارة التي تدير مؤسسة بحجم البنك الدولي عن تعزيز سمعة البنك من خلال ارتباطه بأسماء رنانة في عالم الأكاديمية من أساتذة جامعات لهم ثقلهم في عالم الاقتصاد وباحثين مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة. وفي المقابل، عادة ما يبحث الأكاديمي عن فرصة تسمح له بتحويل معرفته النظرية إلى مقترحات وسياسات حقيقية يمكن لها المساهمة في تحسين أو تغيير واقع العالم، كالقضاء على الفقر المدقع في حالة بيني غولدبرغ. لكن بسبب شدة أضواء المنصب، والأحلام التي يمكن تحقيقها من خلال توليه، تحجب عن الأكاديمي الصورة الكاملة. فالمؤسسة، أي مؤسسة هادفة للربح كالبنك الدولي، والإدارة التي تتولى أمرها، وإن كانت تبحث عن تحسين سمعتها إلا أنها تسعى بشكل حثيث، أولاً وأخيراً، إلى حفظ مواردها وتعظيم مكاسبها وأرباحها. هذا هو الهدف الأول والأخير لتلك المؤسسات بعيداً عن الشعارات الرنانة، وهذا ما يعرفه أصغر أكاديمي يعمل في مجال الاقتصاد أو الاجتماع. لكن جاذبية المنصب تجعل الأكاديمي محتاراً بين أن يبقي كلمته حرة ونزيهة ويعبر وينشر ما يعتقده وما ينتجه من معرفة بغض النظر عن تداعيات ذلك على المؤسسة التي يعمل بها، وبين الرضا بالهامش المتاح له في صناعة سياسات المؤسسة على أمل أن يتسع هذا الهامش يوماً ما. وإن انحاز الأكاديمي أو الباحث إلى المعرفة فإنه بذلك يعلن انتهاء شهر العسل بينه وبين المؤسسة. وهذا ما حدث بين بيني غولدبرغ والبنك الدولي. 

لماذا انتهى شهر العسل؟ 

انتهى شهر العسل بين بيني والبنك الدولي بعد خلاف حاد حول ورقة بحثية تربط مساعدات وقروض البنك الدولي وتوقيتها للدول النامية بحجم التحويلات البنكية وتدفق الأموال من تلك الدول إلى ما يسمى بـ "الملاذات الضريبية الآمنة". والملاذات الآمنة هي الدول الجزر التي تفرض سرية كاملة حول الحسابات المصرفية لعملائها ولا يكشفون عنها، مثل دول سويسرا وجزر العذراء البريطانية.
قامت غولدبيرغ، بحكم منصبها، بتمويل بحث يشرف عليه ثلاثة من علماء الاقتصاد، وهم عالم الاقتصاد النرويجي يورغن أندرسون ونيلز يوهانسون الأستاذ بجامعة كوبنهاغن وبوب ريجكرز أحد باحثي البنك الدولي. هدف البحث هو النظر في علاقة القروض والمساعدات التي يقدمها البنك الدولي للدول النامية والمتعثرة اقتصادياً مع حجم التحويلات البنكية إلى الملاذات الضريبية الآمنة خارج تلك البلدان. وتوصل البحث إلى نتيجة مثيرة للغاية، وهي أنه هناك علاقة وطيدة بين توقيت استلام أموال البنك الدولي وزيادة وتدفق التحويلات البنكية من البلدان الفقيرة إلى الحسابات البنكية لكبار المسؤولين والنخبة في خارج البلاد. كما وجد البحث أن نسبة التحويلات لتلك الحسابات الخارجية تزداد ثلاثة أضعاف بعد وصول أموال البنك الدولي إلى البلدان النامية. 

حاولت غولدبيرغ نشر تلك الورقة البحثية عن طريق البنك نفسه، بعدما واجهت كبار المسؤولين بنتائج البحث وطلبت تشديد الرقابة على القروض الممنوحة لتلك البلدان، وهو ما قوبل بالرفض والإنكار. فاستقالت من منصبها حسبما أورد موقع The Economist.

إذ تستنتج الورقة البحثية أن هناك علاقة واضحة بين الأموال الممنوحة لدول العالم الثالث؛ من أجل التنمية ومحاربة الفقر، وخروج أموال من تلك البلدان إلى حسابات بنكية في الخارج، وهو ما يشكل حرجاً شديداً للبنك الدولي والقائمين عليه، لأن ذلك يعني أن البنك لا يراقب مصير الأموال التي يمنحها لتلك البلدان، لأن ذلك يعني استفادة النخب السياسية والاقتصادية في البلدان النامية من تلك المعونات لمصلحتهم الشخصية من دون أي تأثيرات حقيقية لتلك المعونات على الشعوب الفقيرة والظروف التي يعيشون في ظرفها. وهذا على الرغم من علم البنك الدوليّ المسبق بمعاناة النظم السياسية في تلك البلدان من الفساد والواسطة والمحسوبية. 

نتائج الورقة البحثية

بعد 5 أيام من تقديم استقالتها، ظهرت الورقة البحثية بالفعل على موقع جامعة كوبنهاغن الدنماركية تحت عنوان: "من يستفيد من المساعدات الدولية؟ أدلة من حسابات بنوك الملاذات الضريبية".

أو 

وبعد سماع دوي الفضيحة في العالم بنشر صحيفة The Economist تفاصيل الأزمة، نشر البنك الدولي الورقة أيضاً.

باختصار، يثبت البحث بشكل أكاديمي موثق، ما يقوله ويعتقده كثير من المعارضين لسياسات البنك الدولي، وهو أن القروض والمساعدات القادمة من البنك الدولي إلى الدول النامية -والتي تصحبها عادةً إجراءات تقشفية صعبة، مثل: رفع الدعم عن الوقود والسلع الأساسية، وزيادة الأسعار، وتعويم العملة المحلية- تستفيد منها النخبة من الطبقة الحاكمة والمقربين منها، إذ يتم تحويل جزء منها إلى حساباتهم المصرفية خارج البلاد، في حين يتركون عوام الناس في غياهب وتحت وطأة فوائد القروض سنوات طويلة.

ويشرح محمد رمضان في تقريره على موقع "إضاءات"، الورقة بشكل أكبر قائلاً: "لاحظ الباحثون الثلاثة عبر دراسة تلك العلاقة، أنه في الدول التي تتلقى معونات تمثل أكثر من 1% من الناتج المحلي، فإن ذلك غالباً ما يصاحبه نمو لودائعها في الملاذات الضريبية بـ3.4%. لمعرفة تلك العلاقة على وجه الدقة، عمد الباحثون إلى دراسة العلاقة بين دفعات المساعدات المالية بشكل ربع سنوي، وحجم الودائع في الملاذات الضريبية بشكل ربع سنوي أيضاً.

صورة 1

يوضح الجدول التالي العلاقة بين أموال المساعدات والتحويلات إلى الملاذات الضرييبة في الدول الأكثر اعتماداً على المساعدات الدولية، بحسب بيانات البنك الدولي وبنك تسوية النزاعات الدولية.

وجد الباحثون أنه غالباً ما ترتبط تواريخ دفعات المساعدات بتاريخ زيادات كبيرة في الودائع، وهو ما يدعم فكرة أن النخب السياسية والاقتصادية في تلك الدول تستولي على أجزاء من المساعدات، لتحوّلها لحساباتها البنكية في الخارج.

من يراقب البنك الدولي؟ 

يقوم البنك الدولي بإقراض المليارات للدول المتعثرة مقابل أن تقوم حكومات تلك الدول بإصلاحات اقتصادية تتبع سياسات السوق الحرة. أي أن يتحول السوق إلى سوق حر، مع تقليل الدور والإنفاق الحكومي، وفتح المجال للقطاع الخاص والمستثمرين الأجانب. لكن غالباً ما تكون هذه السياسات ذات عواقب وخيمة وأحياناً تدميرية، خاصة إذا تم تنفيذها بشكل خاطئ أو سريع جداً (العلاج بالصدمة) أو في تسلسل خاطئ أو في اقتصادات ضعيفة للغاية وغير قادرة على المنافسة.

كما أن هناك تعارضاً واضحاً بين الأهداف المعلنة للبنك الدولي وتلك الفعلية. على سبيل المثال، آثار سياسات الصندوق التدميرية واضحة للعيان في البلدان الإفريقية دائمة الاستدانة من البنك، والتي يمكن أن نقول إنها مملوكة للبنك بشكل فعلي، مثل دولة بنين على سبيل المثال. ورغم فشل عملية التحول الاقتصادي لتلك البلدان تحت إشراف البنك وسياساته، فإن تلك الدول لا تجد مفراً من الاستدانة مرة أخرى، ولا تجد أحداً يَدينها سوى البنك الدولي أيضاً، ليعيد إنتاج السياسات نفسها التي أدت إلى الفشل الاقتصادي. وتدخل هذه الدول دائرة مفرغة لا تؤدي إلى شيء سوى تراكم الديون عليها لحساب البنك الدولي. 

وتكشف الورقة البحثية أن البنك الدولي يستمر في إقراض تلك الدول رغم علمه بأن أجزاء ضخمة من الأموال المقرضة تذهب إلى جيوب أصحاب السلطة والنفوذ. فمنذ رحيل جيوش الاستعمار عن القارة السمراء وهي محكومة بالأنظمة الديكتاتورية الفاسدة، التي يعلم البنك جيداً أنها لا تعمل على إصلاح اقتصادي حقيقي، لكن لا يهم البنك سوى عوائده والفائدة التي يأخذها على القروض.

الأزمة الأكبر من ذلك، هي أن صندوق البنك الدولي مؤسسة لا يمكن محاسبتها أو مراجعة سياساتها. إذ لا تملك أي دولة أو مؤسسة دولية، مثل الأمم المتحدة، حق مراقبة البنك الدولي وسياساته المالية؛ بل إن البنك الدولي هو الذي يملك سلطة الإشراف ومراقبة الدول في تنفيذها لخطط الإصلاح الاقتصادي، التي عادةً ما تفشل فشلاً ذريعاً.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

حذيفة حمزة
كاتب ومحرر
محرر، وباحث في علم الاجتماع الرياضي