النوافذ موجودة بشكل معقول، تسمح للشمس بزيارتي كل صباح، الباب يوصَد جيداً، ومتينٌ بحد ذاته. حين أراد السمسار ترغيبي في استئجار البيت، من ناحية الأمان، قال إن بابه كأبواب البنوك، اطمأننتُ نسبياً ووقَّعت العقد.
مطبخه واسع، يسع إنساناً يطبخ وحده، وسفرة عليها أربعة كَراسي، والإنسان ذاته الذي يطبخ سيجلس على واحدٍ منها ليأكل ما طبخه، ويرمي نصفه في القمامة بعد يومين، والكراسي الثلاثة الأخرى من ديكور البيت. الغرفة واسعة، واسعة بشكل سيئ، تجعل البرد مضاعفاً، والإحساس بالوحدة شاسعاً. الإنسان الجالس وحده في مترين يشعر بالوحدة أقل من الإنسان التائه في عشرة أمتار. الحوائط تكتم النفَس، لكنها تقلص الوحدة، وتختصر الوحشة في قبوٍ يشبه المقبرة.
في الليالي الأولى لم أنم، كنت أضع رأسي على الوسادة، ثم أسمع صوتاً يطرق الجدران، أقوم، فيختفي الصوت، وأختفي فيقوم الصوت، ولأنني أتقزز من أفلام الرعب، لا أشاهدها، وبالتالي لا أعلم ما الذي يفعلونه في تلك الحالة، بعد عدة مراتٍ من القيام والرقود، وظهور الصوت واختفائه، التقينا أنا والوحش في لحظةٍ فاصلة، وكان ذلك الوحش الثلاجة، والصوت يخرج منها كأنها تتجشأ بعدما ابتلعت الطعام الذي بداخلها، ضحكتُ، قلت إلى أي درجة أنت حقير يا ولدي؟ إنك ضعيف جداً يا ابن آدم، وضعيف أكثر حين تكون وحدك، لو كنتَما اثنين لما انتبهتما لصوت الثلاجة أصلاً.
كنتُ فخوراً بنفسي، لأنني استأجرتُ البيت من عرقي، وتخيلتُ نفسي أباً كبيراً له شارب به شعرات بيض، يجري حوله صغاره وتعد له زوجته الطعام، وينظر إلى أركان البيت المتسعة ويقول: "بفلوسي يا ولاد الـ…"، وفرحتُ لأنني أثثتُه بالكامل، وتخيلت نفسي شاباً خطب وعقد وتبقى على زفافه أسبوعان، وبرفقته ست البنات، تقول له: "واو، ما أجمل ذوقك!"، "الله! ذوقك يجنن"، "دعنا نختار السجاد بلونٍ أغمق"، وفرحتُ لأنني أعددتُ المطبخ وملأته بالأواني والأطباق -التي لن أستخدم منها إلا طبقاً واحداً- وتخيلتُ نفسي أمام أمي تمدحني، وتناديني باسمِ فتاةٍ قريبٍ من اسمي المذكر، وتقول ساخرةً: "ست بيت شاطرة يا …"، ووسط هذه الأحاديث، أنام، وأستيقظ، بلا صوت، وأتفاجأ بنفسي بلا أي أحد.
فقرة الطعام صارت أسوأ فقرة في اليوم، فقرة أضطر لها، ولو كان بإمكان المرء أن يعيش بدونها لكنتُ أول من يفعل. في بدايةِ الغربة قبل سنوات كنتُ أتأفف من فكرة تناول الطعام وحدي، إلى أن تقبلتها بصعوبة، وتعودتها بعد عذاب، لكن مع الوقت، صرتُ لا آكل إلا وحدي، أتحيّن اللحظة المناسبة لأغلق الباب ورائي، ليتساوى الحصول على الغذاء مع التخلص منه، كلها عمليات روتينية مملة.
في أوقاتٍ أخرى، تطيب لي الفرصة حين نتشارك الطعام أنا وأحد الذين أحبهم، آكل أكثر من أي وقت، أقصد أنني أجد الطعام أشهى، ورائحته أطيب، لكن أعود وأجدني معظم الأيام بمفردي، قلت ربما العيب في أكل المطاعم، أكرهه ولا أجد سواه، لأن الوقت غير كافٍ لأطبخ، وحين أطبخ فإنه وضعٌ مؤقت لا يستمر لأكثر من ثلاثة أيام، أرسلَت لي أمي طعاماً أعدته وخزنته من أجلي، بعثته لي طائراً في حقيبة أحد "تجار الشنطة"، سلمه إليّ، وراقت لي فكرة الأكل من يد أمي رغم المسافات بيننا، وزعتُ الطعام على الأيام، وبدأت أخرجه يوماً بيوم، لكن مع الوقتِ، صارت الفكرة مزعجة أكثر، لأني اكتشفتُ أن طعام أمي لا ينبغي له أن يختزَل بهذه الطريقة.
طعام أمي يعني أننا جميعاً على سفرةٍ واحدة، أن تقسم "المنابات" علينا حسب ما تراه عادلاً، أن تشير صغيرتنا إلى قطعةٍ أخرى في الحلة وتقول لأمي أريد هذه بدلاً من تلك، فتعطيها أمي الاثنتين، ويجلس أبي ويبدأ الأكل فنبدأ بعده، أم نبدأ معه؟ لا أتذكر، كان هذا قبل سبع سنوات. فسئمتُ طعامَ أمي بلا أمي نفسها وبلا اللمة التي تجلبها، وكرهتُ اليومَ الذي أتناول فيه هذا أو ذاك، نَفَسها حاضر ويخطفني من غربتي، لكن بانقطاعه مع آخر ملعقة يسقطني من أعلى قمم الأنس إلى أسفل قيعان الوحشة.
غيرَ السفر ورؤية أناسٍ آخرين وأماكن مختلفة.. للغربة آثار على المرء تفُوق آثار الحرب العالمية الأولى على ألمانيا، تقتلك ببطء، أو تحييك بسرعةٍ ثم تميتك بسرعة، تشترط عليك حين تفرح بأن هذا لن يمتد لأكثر من ساعة، وتشترط عليك حين تحزن أن هذا هو الأصل، وتؤهلك تدريجياً للوحدة، وتجعلك كائناً منعزلاً لا يجيد التواصل مع البشر، ويستبدل بالناس الأشياء، ويخاطب الجمادات في النهار، ويحدث نفسه في الليل، ويرى في الظلام، ويعمى في الضياء، ويميلُ إلى العزلة، ويكره كل شيء، ويهرب من كل شيء، ويحب استثناءات بسيطة، وييأس من عودة الزمان ودوران الأيام، ويرجو كل ليلةٍ لو يعانقه أحدهم، ويموت.
ويكفر الوحيد بالأمل، لأن اليأس في أحايين كثيرة يكون أرحم منه، تماماً كالضحك؛ لو سمعتَ أن أحدهم مات من الضحك، ستقول يا لَسخرية القدر، ليته مات من البكاء!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.