الاعتراف هو الفضيلة التي حُوصرت داخل جدران المعابد والكنائس والمساجد في مصر. فلم يعد أحد قادراً على الجهر باعترافاته وأخطائه لتصويب زلل الماضي من أجل المستقبل. وأصبح الاعتراف في السر على يد الكاهن أو القس أو الشيخ طقساً لا يجوز أن يعرف به أحد خصوصاً ممن كانوا ضحايا لتلك الأخطاء. ولم لا فقد غسلت الذنوب ببركات دينية مقدسة مشفوعة بسرية كاملة. ولكنه اعتراف منقوص لم يتبعه إعادة للحقوق المسلوبة لأن هنا تظهر تباشير المستقبل لمجتمع متناغم يصحح نفسه بنفسه.
في مقال للكاتب المصري عمار علي حسن بعنوان "حين يتمكن العوام من اختطاف السياسة"، يشير لإشكالية الاعتراف والحق بطريقة مباشرة وحذره فكتب: "إن كثيراً من المفكرين والكُتاب يخافون من الجهر باعتقادهم الراسخ بأن التاريخ تصنعه النخب، خوفاً من اتهامهم بالفاشية أو النازية". وهنا يثور السؤال عن ماهية تلك النخبة التي تصنع التاريخ بكل مكوناته وتعتبر العصب الأساسي والمتحكم فى المسار البشري؟
من هم أصحاب المدينة الأصليين؟
إن تطور إنشاء وهندسة المدن في مصر هو أحد المداخل القليلة التي تفسّر العلاقة بين ثنائية (الاعتراف-الحق) من خلال ثنائية تاريخية أخرى ألا وهي (الجيش-المهندس). فعندما كانت تفرغ الجيوش من حروبها وحملاتها الحربية كان يظهر المهندس "كاهن الحضارة" ليعيد هندسة المكان عبر تشييد المدن لتعبر عن واقع جديد وسلطة جديدة تصيغ عهداً ومستقبلاً مغايراً لما قبله. وهنا كان على النخب المدنية أن تعترف بهذا الوضع الجديد وأن تعمل من خلال طرقات المدينة وشوارعها الجديدة على تعريف الناس بحقوقهم وواجباتهم تجاه السلطة الجديدة. ولكن سرعان ما تختل العلاقة بين النخب العسكرية والنخب المدنية وتغيب ثقافة (الاعتراف-الحق)، ويكون هذا إيذاناً ببداية جديدة لثنائية (الجيش-المهندس) لتعيد هندسة المجتمع عبر إيجاد مدن جديدة تعيد صياغة الحاضر والمستقبل.
كان بناء المدن في العهد الفرعوني يعبر عن قوة الدولة وفلسفة الحكم الجديد، فنرى العواصم قد بنيت في الجنوب والشمال لتعبر عن هذا المعنى، وأياً ما كان الشكل الهندسي الذي بُنيت به إلا أن المراد من تلك العواصم يؤكد عبر الشكل الهندسي الجديد على الروح الدينية لتلك المدن، حيث يحتل المعبد القلب من المدينة وتتناثر مناطق الفقراء حول المدينة (لا غنى لأي مدينة عنهم فهم وقودها) والأهم فيها هو القصر، سلطة الحكم والقوة، كل ذلك في إطار شبكة من الطرق تحدد المسارات والاتجاهات وبمرور الأزمنة أصبحت تحدد شكل الحكم.
ولم تختلف فلسفة الحكم في بناء المدن للسيطرة على المجتمع من الحكم المصري أو الأجنبي، فقد حكم الإسكندر الأكبر بجيوشه عبر بناء هندسي جديد يعبر عن فلسفة حكمه الجديدة، فكانت مدينة الإسكندرية العظيمة. ولما جاء الفتح العربي لمصر لم يختلف الأمر فقد بنى قائد الجيش عمرو بن العاص مدينة الفسطاط وفي القلب منها الجامع المسجد، وتم هندسة المدينة لتعبر عن الفكر الجديد للحكم. ومع بداية حكم الدولة الطولونية أراد أحمد بن طولون أن تكون له مدينة تعبر عن حكمه الجديد فكانت مدينة القطائع، ولكنها لم تكن مدينه بالمعنى الكامل، حيث إنها كانت امتداداً لمدينة الفسطاط القديمة، ولكنها عبرت عبر طرازها المعماري الهندسي الجديد عن فلسفة الحكم.
ومع دخول الجيش الفاطمي مصر بقيادة القائد جوهر الصقلي أمره الخليفة المعز لدين الله بأن يبني مدينة لتكون مقراً للحكم الجديد وتعبر عن طبيعة الحكم الجديد فكانت مدينة القاهرة. ولم تختلف القاهرة في الفلسفة الهندسية عن باقي المدن القديمة، فقصر الحكم والمسجد حاضران ولكن الجيش الفاطمي كان جيشاً هجيناً من أعراق مختلفة (الصقالبة – الروم – الأمازيغ) فتم بناء أحياء مختلفة لهم في العاصمة الجديدة حتى لا يحدث صدام ومنازعات بينهم.
المدينة والثورة
وتكون الطرق والشوارع التي بنتها ثنائية (الجيش-المهندس) لتعبر عن طبيعة الحكم ميداناً للصراع بين الدولة بنظامها السياسي وبين الجماهير الثورية التي تريد من النظام الحاكم ومن نخبته التي كونتها أن تعترف بحقها في الحياة وفي تقرير المستقبل.
وحسم المعركة يقف على من يسيطر على الشوارع والطرقات، وهنا يؤكد جوزيف غوبلز، وزير الدعاية للجيش النازي، أن "مَن يستطيع السيطرة على الشارع يسيطر في الآن نفسه على الدولة".
ومع سقوط النظام السياسي تبدأ مرحلة جديدة أخرى.
عندما تهدأ الحالة الثورية تبدأ ثنائية (الجيش-المهندس) في إعادة هندسة المجتمع مرة أخرى عبر إيجاد علاقات اجتماعية جديدة، وتوزيع قاعدة الملكية والثروة بين جموع الشعب بشكل مختلف، والعمل على تقليل نسب البطالة في المجتمع خصوصاً بين فقراء المدينة وقود الثورات والعمل على إيجاد ظروف معيشية وسكن أفضل.
النخبة المصرية وهواية ركوب الأمواج
لم تكن النخبة في المجتمع المصري عبر تاريخها سوى معبّرٍ عن فلسفة حكم الكامنة في الثنائية الأبدية (الجيش-المهندس) من خلال نمط العلاقات الاجتماعية في مركز الحكم. حتى في حالات الاختلاف مع الحاكم، كان يجري في القنوات التي خصصتها ذات الفلسفة. لكن الصدمة الكبرى كانت تحالف تلك النخبة مع القصر إما برضاها أو إذعاناً منها للسلطة، ولم تعترف بفشلها في تعريف جموع الشعب بحقوقهم وواجبات نظام الحكم تجاههم وتركتهم للفقر والأغنياء، حتى ما أن يحتل الفقراء الثائرون طرقات وشوارع المدينة مدعومين بالجموع الهادرة الآتية والمساندة لهم من الريف حتى تطل النخبة برأسها تنادي بحقوق الناس وتعترف بأحقيتهم في الحياة الكريمة ومستقبل مشرق.
وإذا ما جرت الرياح بما لا تشتهي سفن الغاضبين، وتستعيد ثنائية (الجيش-المهندس) دورها التاريخي في هندسة المدينة والمجتمع، ترى النخبة تنقسم حول نفسها قسم يلحق بالسلطة الجديدة وقسم يلعن الظرف التاريخي الذي أفلت منه. ولكن كلا القسمين يلعنان الجماهير التي خذلتهم ويصفونها بأقذع الأوصاف، ويستمر هذا الحال في الوقت الذي يجهل فيه الجميع أن هناك مَن يعيد بناء وهندسة المجتمع على أسس جديدة. وحتماً ستختفي نخب قديمة وستظهر أخرى ولن يتغير شيء طالما أن الجميع لا يعترف بأن ثنائية (الجيش-المهندس) المدعومة بالقطاع الصناعي والتجاري حديثاً هي التي تنتج علاقات الإنتاج عبر التاريخ وهي التي تبني المدن التي تعبر عن فلسفتها. بل وهي التي تتدخل في بعض الأحيان لهدم نظم سابقة لإيجاد علاقات اجتماعية جديدة تساير العصر مستخدمة النخبة دون أن تدري من أمرها شيئاً لتبرير سلوكها.
دخلت النخبة المصرية كهف الظلام باختيارها بعدم اعترافها بثنائية (الجيش-المهندس) الحاكمة للحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ بدء الدولة المصرية على وادي النيل. في الوقت الذي لم تعبر بقوة عن حق الناس في المدينة وفي المجتمع الجديد بل وأدارت ظهرها إما خوفاً من السلطة الجديدة أو عجزاً منها عن إنتاج نمط تفكير جديد. ما يدع المجال للثنائية الأزلية في تشكيل النمط الجديد وفرضه على الجميع، عندها تكون النخبة الجديدة وريثة لنخبة منبطحة أساءت لحق الناس في مستقبل أفضل.
من لا يعترف بحجم القوى التي تحكم المجتمع وطبيعة حركتها قديماً وحديثاً حتماً سيقع في دوامة التغيير الأزلي والقسري لهندسة المجتمع دون أن يكون له دور وسيظل مفعولاً به. وساعتها تصبح فلسفة الحقوق عبارة عن مطالبات مستمرة من نخبة تقدم طلبات متزلفة ليكون لها دور، وشعب فقير كبحر متلاطم الأمواج ينتظر أن يكتمل بناء مدينة الزمن الجديد لعل وعسى أن يكون له مكان فيها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.