السجن تهذيب وإصلاح كما يطلق عليه علماء الاجتماع. ونشأت فكرة إنشاء السجون لإعادة تنشئة الفرد بعد سلوك يرتكبه يتنافى مع أعراف وقوانين المجتمع، ومما لا شك فيه أن هذه الفكرة تغيرت من حاكم لآخر. فقد سُجن يوسف عليه السلام دون أن يرتكب أي فعل يتنافى مع أخلاق أو عُرف المجتمع، بل سُجن يوسف عليه السلام بعد أن ظلمته زوجة العزيز حاكم مصر، فيقول تعالى في كتابه العزيز (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ)، (32) سورة يوسف. ومن هنا نرى أن الفرد قد يتعرض للسجن إذا اعترض مع رغبة الحاكم بل أيضاً مع زوجته وأقربائه دون أن يتعدى على دائرة القانون والأعراف.
وبما أن الآية الوحيدة في القرآن التي تحدثت عن السجن كانت بقصة يوسف عليه السلام في مصر، نتطرق في هذا الموضوع لمناقشة قضية تُعتبر من أهم القضايا التي تغافل عنها السياسيون ودارسو علم الاجتماع، ألا وهي قضية سيكولوجية السجون في إنشاء المتطرفين، وكيف يمكن للسجن أن يغير من سلوك الفرد من سيئ إلى أسوأ.
السجون في مصر تُصنف كأحد أسوأ السجون في العالم، بالأخص للسياسيين أو معتقلي الرأي. وبالرغم مما تشهده مصر من ضغط دولي لمعرفة مصير معتقلي الرأي الذين يدخلون في دوامة الصراع النفسي داخل السجون والبحث عن الهوية الحقيقية للفرد، فإن السلطات المصرية لا تكترث للرأي الدولي. وهذا يعود بنا إلى تسليط الضوء على ما يقوله علم الاجتماع في السجون، فالسجن هو أحد الركائز التي تلعب دوراً مهماً في عملية التنشئة الاجتماعية للفرد، ولكن السجن يلعب دوراً مختلفاً، فهو يعيد الفرد إلى السير نحو القواعد والأعراف والقوانين المتفق عليها داخل المجتمع ويعيد تربية وتنشئة الفرد، وعلى كل حال، فإن السجون في مصر وبالأخص للمعتقلين السياسيين لا تعيد ترتيب الأفكار للمعتقلين أو إعادة تربيتهم، أو حتى كما يُقال لعمل (غسيل دماغ) للتخلي عن أفكارهم السياسية والأيديولوجية من قبل سجانيهم، بل إن أغلب من دَخلوا السجون بداية من حكم عبدالناصر نهايةً بحكم السيسي لم يتخلوا عن أفكارهم مثل أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، فما لاقوه في سجون عبدالناصر وحِمل الضغينة في نفوس السجانين تجاههم زادهم تمسكاً بأفكارهم الإسلامية، وللحقيقة التاريخية، هنالك بعض الأعضاء في جماعة الإخوان ممن تخلوا عن فكر الجماعة واعتنقوا بعض الأفكار المتطرفة لما لاقوه من عذاب وويلات، والسوط الذي نال من أجسادهم داخل السجون، مثل جماعة التكفير والهجرة.
بالإضافة لذلك، ذكرت بعض مصادر كتب الإخوان أن هناك بعضاً من الإخوان المسلمين تركوا فكر الجماعة والأفكار المتطرفة، واستطاع النظام تجنيدهم داخل السجون، ليصبحوا ورقة رابحة في جيب النظام، من أجل تحسين صورته، مثل علي عشماوي، الذي وشى بسيد قطب وعبدالفتاح إسماعيل وغيرهما من قيادات الإخوان في عام 1965.
سيكولوجية أعداء الوطن
إن الضغط النفسي الذي يقع على عاتق المعتقلين السياسيين يجعلهم في تساؤل دائم: هل هم على حق؟ هل الوطن يستحق هذه التضحية؟ أما على الصعيد الإسلامي فيأتي السؤال في أذهان أصحابه: هل نحن حقاً من يحمل راية الإسلام الصحيحة؟ وإذا كان ذلك صحيحاً فأين النصر؟
إن هذه الأسئلة التي تدور في أذهان المعتقلين السياسيين لا تحتوي على إجابات سوى في كتب سجانيهم، فيتعمّد النظام أو السجانون نبذ المعتقلين وتشويه صورتهم الاجتماعية داخل وخارج السجون، على سبيل المثال، زجّ نظام السيسي بالأطباء والمهندسين والأكاديميين داخل سجونه، وتعمّد تشويههم إعلامياً حتّى يصدقهم الشعب، فيصبح كل من ينتمي للإخوان المسلمين أما خائناً أو عميلاً أو جاهلاً! وهنا يأتي السؤال الاجتماعي: هل تلعب هذه السجون الدور الفعال في تهذيب وإصلاح الفرد؟ وعلى كل حال، إن هذه الطرق الممنهجة التى يتبناها النظام في تشويه صورة المعتقلين السياسيين لم تخرج إلى النور الآن، ولكن تبناها جمال عبدالناصر وحمزه البسيوني في تعذيب المعتقلين السياسيين داخل المعتقلات السياسية، بل وصل الأمر إلى قتلهم عمداً في غياب القانون والقواعد التي يرسمها المجتمع لكي يسير عليها المواطنون من أجل عدالة اجتماعية كما تطلق عليها الاشتراكية، التي أخذت مكاناً في حكم مصر خلال الحقبة الناصرية.
إن التناقض في القوانين وما يحدث في غياهب السجون من تخوين للمعارضة والسياسيين يُسلط الضوء على الدور الاستراتيجي الذي يلعبه النظام في التخلص من المعارضين، فيعمل النظام أولاً تحت خطة إعلامية ممنهجة على تخوين المعتقلين وبث روح الهزيمة في داخلهم، وبالأخص داخل روح الإسلاميين، الذين يؤمنون أنهم على حق، وأن الأمر يحتاج فقط إلى الصبر حتى يأتيهم نصر من الله، ويشهد على هذا الكلام ما استشهد به محمود عبدالحليم في كتابه (أحداث صنعت التاريخ) بأن الليلة التي أعلن فيها نظام عبدالناصر هزيمة اليهود على أيدي الجيش المصري تركت حيزاً وأسئلة من دون جواب داخل أذهان المعتقلين، فإذا كانوا على حق فكيف ينتصر الجيش الذي يعذبهم ويقتلهم ويهتك عرض نسائهم؟ ومع ذلك، فإن هذه الأسئلة لم تدم إلا ساعات قليلة حتى يأتي الخبر الحقيقي بأن الجيش المصري تلقّى هزيمة ثقيلة في سيناء، أدت إلى كسر الهيبة والكرامة التي رسمها عبدالناصر للعرب جميعاً. وحتى مع هذا الحدث الذي أدى إلى هز الثقة داخل الجيش المصري نادى المعتقلون السياسيون بالخروج من السجون، حتى تسنح لهم الفرصة للمشاركة في الحرب ضد الصهاينة.
في هذا الصدد، هل يمكن لشخص يُلقب بالخائن ويعيش في غياهب السجون تحت التعذيب وأصوات السوط أن يُنادي بالحرب من أجل بلاده؟
على كل حال، وفي الجهة المقابلة لمن نادى بالحرب ضد الاحتلال الصهيوني، كان هناك العديد من الأفراد انتشرت أفكارهم المتطرفة داخل السجون، ونادوا بأن الحكم بالديمقراطية هو حكم الطاغوت، أيضاً أعلنوا أن المجتمع كافة، الذي يعيشون فيه، هو مجتمع كافر، لا يمكن أن يعيشوا معه، وفي النهاية أطلق عليهم الناس جماعة التكفير والهجرة، التي كانت النواة الأولى في نشر الأفكار المتطرفة داخل مصر وخارجها، بل أيضاً داخل السجون، فتكون أفضل الأماكن لتجنيد المتطرفين داخل السجون. والسبب أن من يقعون ضحية التطرف يكون أغلبهم منبوذين من المجتمع، فيقعون تحت الكلام والطريق الذي يرسمه لهم أصدقاؤهم الجدد أو مجنّدوهم…
يُتبع….
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.