مهمة لا وظيفة
بعد أن انتهت مهمتي كمستشار إعلامي للجمعية التأسيسية لكتابة دستور 2012، تلقيت اتصالاً من رئاسة الجمهورية، خلاصته: "يُرجى الحضور حالاً للأهمية"، وقد كان لديّ موعد، في اليوم نفسه، فاستأذنت من محدثي تأجيل هذا اللقاء، إلى الغد، فلم يأذن لي! فتوجهت من فوري إلى قصر القبة، وهناك التقيت بكل أعضاء الفريق الرئاسي تقريباً، فك الله -بالعز- قيد الأسرى منهم. بعد أداء صلاة الظهر خلف الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، تم تكليفي مسؤولاً عن "ملف ماسبيرو"، وماسبيرو لمن لا يعرف من أشقائنا العرب، هو هيئة الإذاعة والتلفزيون المصرية الرسمية، لسان حال (النظام)، وليس الدولة؛ لأن النظام الحاكم في مصر (على مر العصور) يعتبر نفسه الدولة، وكانت فترة حكم الرئيس مرسي، استثناءً من ذلك، كما سيأتي في السياق.
لم أستغرب هذا التكليف، فقد كانت لي علاقة بالمسؤولين في اتحاد الإذاعة والتلفزيون، بحكم طبيعة مهمتي السابقة، في الجمعية التأسيسية لكتابة الدستور التي كانت تقتضي الاتصال الدائم بهؤلاء المسؤولين، وعلى ما يبدو أن مَن كان (يراقبني) رأى أني أبليت بلاءً حسناً، في تلك الفترة، فقام بتزكيتي للقيام بالمهمة الجديدة.
قبلت التكليف على الفور، ولم يتطرق الحديث مطلقاً إلى أي أمر يتعلق بالكادر الوظيفي، أو الجانب المادي.
وأرجو ألا تندهش -عزيزي القارئ- من هذا السلوك، سواء من جانب الذي كلفني، أو من جانبي، فكلانا يعلم ضمنياً، بحكم تربيتنا "الإخوانية"، أننا في "مهمة" يجب القيام بها، حِسبة لله، وليس من اللياقة ولا المروءة، مناقشة الأمر باعتباره "وظيفة" لها درجة في السلم الوظيفي، يستحق شاغلها راتباً من الدولة، وحزمة من الامتيازات. وقد كان الرئيس مرسي هو "المثال" لهذا الأداء الغريب على الجميع، فقد عمل الرجل متطوعاً بلا أجر ولا امتيازات، وظل يؤدي "مهمته" التي كلفه بها الشعب، حتى جاء مَن انتزعه من مكانه بالقوة؛ ليبني القصور الفارهة لنفسه وعائلته، وينشئ "صناديق" تستقبل المليارات، طوْعاً وكرهاً، بلا رقيب عليها ولا حسيب!
وقد يسأل سائل، مستفسراً أو مستنكراً: ما الداعي لوجود مسؤول عن ملف "ماسبيرو" في رئاسة الجمهورية، وهناك وزير للإعلام؟!
هذا سؤال وجيه، منطقي، ومعتبر، سأترك لك -عزيزي القارئ- مهمة استخلاص الإجابة عنه، من ثنايا هذا المقال، وألتمس منك العذر في ذلك، ولي أسبابي التي أعتذر عن عدم إبدائها في هذه الظروف السيئة التي تمر بها "الحالة الثورية"؛ درءاً لمفسدة "محققة".
مستشار الرئيس للأخبار
خاطبتْ رئاسةُ الجمهورية رئيسَ اتحاد الإذاعة والتلفزيون بأن المستشار أحمد عبدالعزيز قد تولى ملف "ماسبيرو" برئاسة الجمهورية، وعليه، يُرجى التعاطي معه وفقاً لذلك. لكنها مصر، "شِبْه الدولة"، كما وصفها السيسي، ولعلها المرة الوحيدة التي صدَق فيها. فمصر لم تكن يوماً "دولة ذات سيادة"؛ لأنها لم تكن مستقلة أبداً، ويوم حَكَمَها أبناؤها بعد انقلاب يوليو 1952، جعلوا منها "شبه دولة" قصداً وعمداً؛ لأن الدولة تعني مؤسسات، ورقابة، ومحاسبة، وحاكماً يأتي بانتخابات نزيهة، ثم يذهب إن لم يرض عن أدائه الشعب، بعد مدة محددة، وقبل كل ذلك، دستور يُحترم، وقانون يَسري على الجميع، بلا تمييز، ولم يكن المماليك الجدد، أو مَن سموا أنفسهم "مجلس قيادة الثورة" مستعدين لكل هذا، فهم عسكر لا يعرفون سوى إصدار الأوامر التي يجب أن تُنفَّذ، حتى لو كانت نتائجها كارثية.
أقول ذلك؛ لأنني فوجئت في اليوم التالي في أول زيارة لي لماسبيرو بخبر منشور في إحدى الصحف (نسيت اسمها للأسف)، يتحدث عن زيارة "مستشار الرئيس للأخبار" لاتحاد الإذاعة والتلفزيون. مُسمّى ليس له وجود، لكن لِمَ لا والحديث في هذه الزيارة كان عن ضبط المصطلحات في "الأخبار" مع رئيس الاتحاد ورئيس قطاع الأخبار؟
إذاً، أحمد عبدالعزيز هو "مستشار الرئيس للأخبار". إنها مصر، شِبْه الدولة التي يبدع أهلها، أصحاب القريحة المتقدة دائماً، في فن الاشتقاق اللفظي، بدرجة لا يمكن وصفها.
على أية حال، فقد تطوَّع المسؤولون في ماسبيرو لمعاملتي، بعد وقت قصير للغاية، من تلك الزيارة، باعتباري "ممثلاً" للرئيس، أو "مندوباً" عنه، وليس مجرد "مستشار" إعلامي. بمعنى أن كل ما كان يصدر عني من "توصيات شفهية" أثناء أحاديثنا، كانوا يعتبرونها، من تلقاء أنفسهم، "تعليمات رئاسية"، يتم تنفيذها في الحال. وما كان لي أن أرفض هذه المكانة ولا هذا السلوك، ليس استحساناً لهما، ولكن استغلالاً لهما؛ لإنفاذ ما كان وزير الإعلام يجادل في تنفيذه معهم، ولا يُنَفَّذ، وكذلك تنفيذ "توصياتي" أيضاً.
إنها السلطة وسحرها، والخوف من بطشها، ولا أجافي الحقيقة إذا قلت: والرغبة في تملقها واسترضائها. ورغم كل هذه المحفزات على التسلّط والاستبداد، فلم أكن "جبَّاراً" في الأرض، ولم أستغل هذه المكانة في ظلم أبداً، بل سخرتُها لرفع الضيم عن المضطهدين، ولله الحمد والمنَّة. ومَن يقرأ كلامي هذا مِن أولئك الذين ظُلِموا حينها، سيقول: صدقت.
وقد تندهش عزيزي القارئ إذا كنت من المتابعين لي على مواقع التواصل الاجتماعي! فقد اعتاد مني المتابعون، الأدبَ، واللياقة، ودماثة الخُلُق، لكنهم لا يعرفون عني الحزم الشديد، وعدم التهاون في أداء الواجبات أو التكليفات، إلى الدرجة التي جعلت جماعة من العاملين في ماسبيرو يطلقون عليَّ اسم "هولاكو الإعلام"!
إنفاذ فوري لقرارت وزارية معطَّلة
بعد مدة لا تتجاوز ثلاثة شهور من ترددي على ماسبيرو بصورة شبه يومية، بدأت أتلقى شكاوى من بعض العاملين هناك، يشكون فيها من اضطهاد غير مبرر، أو حق مهضوم، أو تأديب كيدي، أو نقل تعسفي، أو تأخير لدرجة مستحقة.. إلخ.
أيها الشاكون، أنا مستشار في رئاسة الجمهورية، وليس لديّ أية صلاحيات تنفيذية، ولا أملك سلطة اتخاذ القرار، في هذه المؤسسة المترهلة. حتى أنني قلت ذات مرة لأحد الشباب على الهاتف: "ما تطلبه مني يدخل في اختصاصات معالي الوزير، وترددي على ماسبيرو لا يعني أنني بديل عن الوزير! أنا هنا لضبط الأداء الإعلامي، وفق معايير المهنة وتقاليدها، وحسب، أرجو أن تدركوا هذا".
لكنها مصر، شِبْه الدولة التي لا يعرف أحد فيها دوره ولا حدوده، على الوجه الصحيح!
لما كثرت الشكاوى، أردت التحقق من صحتها، فحددت موعداً للشاكين جميعاً، في مكتب رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون، أي الرئيس التنفيذي لماسبيرو، وكان يشغل هذا المنصب بالإنابة، الأستاذ شكري أبوعميرة، المخرج التلفزيوني المعروف، بعد أن استنفد الأستاذ إسماعيل الششتاوي، رئيس الاتحاد السابق، مرات التجديد المسموح بها قانوناً، وأحضر كل شاكٍ أوراقه معه، وكانت صدمتي حين اطلعت على قرارات صادرة عن وزير الإعلام منذ شهور ولم تُنَفَّذ.
نظرت بامتعاض إلى الأستاذ شكري أبوعميرة، وسألته مستنكراً: ما هذا يا أستاذ شكري؟! كيف لكم أن تعطلوا قرارات وزارية كل هذه المدة؟! هل كان يجرؤ أحدكم على مجرد النظر إلى قرارات صفوت الشريف (وزير الإعلام في عهد مبارك)، ناهيك عن مناقشتها، أو تعطيلها؟!
ارتبك الأستاذ أبوعميرة، وقال وهو يرسم ابتسامة أماتها الخوفُ على شفتيه، قبل أن تكتمل: تحت أمرك معالي المستشار.. بِمَ تأمر؟ فأجبته، الذي يأمر وينهي هنا هو معالي الوزير، وليس أنا، والقرارات التي بين يديك هي بمثابة أوامر من الوزير، يجب إنفاذها حالاً، بل ويجب محاسبة من قام بتعطيلها طوال هذه المدة.
فتناول الرجل على الفور قلماً وأوراقاً، وبدأ في كتابة "أوامر تنفيذية" لقرارات الوزير.
إخفاق في ضبط السياسات وتطوير المحتوى
كان ولا يزال وزير الإعلام الأستاذ صلاح عبدالمقصود يعتبر أن أهم إنجازاته تخفيض ديون اتحاد الإذاعة والتلفزيون. والحق أقول، إن هذا إنجاز كبير ولا شك، لكنه لم يكن أبداً الإنجاز المنشود في تلك اللحظة، ولا من أولويات تلك المرحلة على الإطلاق. فهذه الديون تراكمت عبر عقود من الزمن، وكلها أُنفِقت في وجوه تستحق المساءلة الشعبية أو الثورية بالأحرى؛ ولا أقول القانونية؛ لأنها أُنفقت وفقاً للقانون، أو كما يقول المصريون: "تم تستيف أوراقها"! ولكن ليس لمصلحة الشعب، ولا لتطوير الأداء الإعلامي، مضموناً وصورة، وإنما أُنفِقت في صورة تكاليف إنتاج برامج لم يشاهدها أحد مع مكافآت باهظة، لفرق عمل هذه البرامج ورواتب مليونية، وحوافر للقيادات العليا في ماسبيرو، بدءاً من الوزير صفوت الشريف، ومن جاء بعده، مروراً برئيس الاتحاد، ورؤساء القطاعات، ورؤساء القنوات.. إلخ!
وللأسف، لم ير المصريون، ولا الرئيس مرسي، رحمه الله، أثراً لإصلاح "حقيقي" في أداء الإعلام الرسمي الذي من أولى مهامه في تلك المرحلة الحساسة تعريف الشعب بما يجري من "إنجازات حقيقية" على الأرض، بعد سنة ونصف من الخمول والفوضى اللذيْن أعقبا انتفاضة يناير 2011. لكن ذلك لم يحدث.. وعندما أتكلم عن الإصلاح الحقيقي، فأنا أعني بالضرورة التزام هذا الإعلام بالمعايير المهنية، التي درَّسها أساتذة المهنة المصريون لطلبة الإعلام في كل أصقاع الأرض، وليس تملُّق الرئيس مرسي، ولا مدح الإخوان المسلمين، أو الكف عن نهشهم. لكن الإعلام المصري، ويا للأسف، كان -ولا يزال- موالياً للدولة العميقة، منذ تأسيسه، وتحديداً لأجهزة المخابرات.
ويعود إخفاق وزير الإعلام الأستاذ صلاح عبدالمقصود في مهمته؛ لأسباب عديدة، أذكر أربعة منها:
- السبب الأول: شخصية الرجل المسالمة، التوافقية، غير الصدامية، وهذه طباع، لا يمكن لصاحبها قيادة 45 ألف موظف، اعتادوا "الإدارة بالعصا" أو "التهديد بوسائل السيطرة"، اللذيْن كان يمارسهما وزير الإعلام الأسبق صفوت الشريف، رجل المخابرات العجوز، وصاحب تسجيلات "السمو الروحي" المشهورة في عهد عبدالناصر، وهو سلوك ظل صفوت الشريف يمارسه حتى آخر يوم له في السلطة.
- السبب الثاني: الحرية غير المسؤولة، والانفلات العام، وشيوع الإحساس لدى المصريين بأن "عصا السلطة الغليظة" قد كُسِرت، كلها مظاهر كانت موجود في ماسبيرو أيضاً، بدرجة ملحوظة، حتى أن إحدى المذيعات خرجت على الهواء تحمل (كفنها) وخرجت أخرى على نص نشرة الأخبار أثناء قراءتها!
- السبب الثالث: سيطرة أجهزة الأمن والمخابرات على معظم المسؤولين في ماسبيرو، وغير المسؤولين أيضاً، وقد لاحظت قبل أسبوعين أو ثلاثة من الانقلاب تراخياً واضحاً في الأداء. ما يعني أن هؤلاء العاملين تلقوا تطمينات "أمنية مخابراتية"، بأنهم في أمان، حتى لو تمردوا على توجيهات الوزير، أو رؤسائهم المباشرين!
- السبب الرابع: تخفيض المكافآت التي اعتاد عليها العاملون في ماسبيرو، في العهود السابقة، لاسيما أصحاب العلاقة بما يُعرض على الشاشة، إنتاجاً، وإخراجاً، وتقديماً، وقد أدى ذلك الإجراء (الذي لم يكن مناسباً في حينه) إلى احتجاجات شبه دائمة، وتهديدات مستمرة بالاعتصام، وإيقاف البث!
في المحصلة، لم تكن الرئاسة راضية عن أداء الوزير صلاح عبدالمقصود، وقد طُلِب مني شخصياً، ومن آخرين، ترشيح شخصيات أخرى لتولي وزارة الإعلام، خلفاً للأستاذ عبدالمقصود، في التعديل الوزاري المزمع إجراؤه، في ذلك الوقت، وقد قمت بالتقصي عن بعض الشخصيات التكنوقراطية التي لا تربطها أية علاقة بالإخوان المسلمين، من قريب، أو من بعيد، ورشحت بعضها لمنصب الوزير، وكذلك فعل غيري، بيْد أن الوزير عبدالمقصود احتفظ بحقيبته الوزارية؛ لأسباب لا أعلمها، ولم أسْعَ لمعرفتها. وهذه هي المرة الأولى التي أفضي فيها بهذا "السر" إن جاز التعبير، وألتمس العذر من أخي وزميلي وصديقي معالي الوزير صلاح عبدالمقصود في ذلك، وفي كل ما جاء عنه في هذا المقال؛ لإيماني بسداد قول السلف الصالح: "نحب فلاناً، لكن الحقَّ أحب إلينا منه".
وللتاريخ، فقد عُرضت حقيبة وزارة الإعلام على شخصيات إعلامية بارزة عند تشكيل الوزارة الأولى في عهد الرئيس مرسي، برئاسة الدكتور هشام قنديل، ولما رفضت هذه الشخصيات قبول المنصب، تم إسناده إلى الأستاذ صلاح عبدالمقصود، بمعنى آخر، فإن الأستاذ عبدالمقصود لم يكن خيار الإخوان الأول لمنصب وزير الإعلام.
المستشار الإعلامي للرئيس المصري الراحل محمد مرسي
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.