"نازلة برد"، أنفلونزا، نازلة شعبية، رشح، وغيرها من الأسماء التي تجعلك تتحسس أنفك فور سماعها، كلها تعني شيئاً واحداً، وهو ذلك الضيف الثقيل الذي لا تطيقه إذ يعلن عن قدومه؛ إن كنت تحب الشتاء فهو ضريبة حبك له، وإن كنت تكره الشتاء فهو لعنة كرهك له، على حد سواء، صداع مستمر، سخونية في جبهتك، وبرد يقيد جسمك، وعرقٌ من هنا، وجفاف من هناك، والعِجل -أعزك الله- إذا وقع كثرت سكاكينه، فتكثر سكاكين المرض عليك، وتتملك الأنفلونزا حواسك كلها دفعة واحدة، فأنت تائه لا تركز، ومزكوم لا تشم، ومزغلل لا ترى، وشِبه أصم لا تسمع، وأنت تدري أنها ليست سكرات الموت، لكنه "هزار تقيل" كالذي يقوم به أحدهم حين يدفعك فجأة إلى البحر ويمسكك جيداً، فتشعر بالموت، وتشعر بالحياة.
في نازلة البرد، ومع الشعور الشديد، واحتياج الجسم إلى التعرق، واحتياج الجسم إلى الشفاء، طال بحثي عن شيءٍ يناسب طلبي الصعب، الـ "سويتشيرت" ثقيل ويدفئ، لكنه يسمح للهواء بأن يتخلل ما بينه وبين جسمي فأزداد إعياءً، الـ "جاكيت" سيجعلني أحتضر من الخنقة ولا يؤدي الغرض، أي شيء لن يصنع لي ما أريده، فكان الحل العبقري الذي لمع ببالي فجأة، هو تلك الحقيبة، حقيبة السفر الكبيرة التي تزيد وتنقص، أضع فيها ما أضع وأرفع منها ما أرفع، ويظل شيء واحد ثابتاً داخلها كأنه ضمن جسمها، لا يفارقها أبداً، ولا أقوى على التخلي عنه رغم أنفي، فهو وصية أبي لولده المسافر إلى بلاد الفرنجة.
كانت وصية أبي "الكلسون"، وكان الكلسون راقداً هناك، في كهفه الأبدي، أقبلت عليه وأنا أشعر كأنه استحال إنساناً يضع رِجلاً على رِجل، ويقول لي: الآن احتجتَ إليّ؟ الآن تذكرت كلسون؟ تعالَ وخذني والحساب بعدين، لن أطيل عتابك، ولن أتمرد عليك، سأسامحك لأنكم جميعاً شباب طائش، لا تعلمون قيمة الشيء إلا بعد زمنٍ طويل، ولا تُقدّرون الهَنا إلا بَعده بسنة.
ارتديته، وهي أول مرة في حياتي أرتديه، كان قابعاً هناك، في بيتنا بخزانة ملابس أبي منذ زمن طويل، وكان قابعاً في حقيبة سفري منذ ثلاث سنوات، لم يفارقها، ولم أنظر إليه مرة بعين الاهتمام، حتى لقد فكرتُ أكثر من مرةٍ أن أتصدق به، وأنا أشكك في أن يقبله مني أحد، وأنا أكاد أتيقن أنها ستكون إهانةً للمتصدَّق عليه، سيرمقني بنظرةٍ غاضبة ويقول: أتهزأ بي؟
ارتديتُه، وإذ بجسمي يعتدل في حرارته ويتعرق بلطف ويدفأ بلطف، كأنه اختراعٌ حديثُ يكيّف الجسم على الحرارة الأنسب له، وازَنَ حرارتي وفعل ما تعجز عنه ملابس الماركات، نظرتُ إليها جميعاً على الشماعات باحتقار، ونظرتُ إليه وحده بإكبارٍ، ولم أقل شيئاً، لكن كل خليةٍ مني كانت تقول لكل خيطٍ فيه: أرجوك سامحني.
اتصلتُ بأبي، قلت له إنني أرتدي الكلسون لأول مرة في حياتي، ونزلتُ إلى السوق وقد كنتُ أصارع المرض منذ يومين، إلى أن هداني الله إلى الكنز الذي أوصاني به حين عزمتُ السفر منذ سنوات ثلاث، واليوم يومه، والليلة ليلتي، وأنا فرِحٌ به، بلا مبالغةٍ، كأنني فرحٌ ببدلة زفافي، وصرتُ كالطفل أبحث فيه عما أفتقده، أكتشفه خيطاً خيطاً، أمسك بقماشته، أعجب بها، أتعجب لها، وأدعو لصاحب الاختراع.
أذّن العصر، وحانت فقرة الوضوء في جو الشتاء، يعني تعرية الذراعين من كمٍّ هائل من الملابس، حتى يتم الوضوء على أكمل وجه، وحان وقت اختبار الكلسون، لأرفعه إلى ما فوق كوعي، وهنا كانت المفاجأة، الكلسون الذي يرقد في البيت منذ سنوات طويلة، كأنه جديد للتو، أرفعه إلى الأعلى فيسبقني إلى ما فوق الكوع، وأفرغ من الوضوء فأجفف ذراعي وأنزله إلى الأسفل، فيعود سيرته الأولى، كأن الـ"أستك" الذي في أسورته من نوعٍ نادر، لا يتسع مع كثرة الاستعمال، ولا يماطل حين تطلب منه أن يذهب أو يعود، أعدته، فعاد من غير سوءٍ آيةً أخرى.
في البحث عن أصل الاختراع، وكمعظم الاختراعات المهمة للبشرية، لا يوجد مصدر موثوق يدون تاريخ نشأته، لكن البعض أشار إلى اكتشافه من أول المصريين القدماء، مع اختلاف القماش وتشابه الفكرة، والبعض قال إنه بدأ في عصر التنوير -وبشكل شخصي أرجح ذلك، فلا بد من علاقةٍ وطيدةٍ بين الكلسون والتنوير-، والبعض يقول روايات أخرى عن اسمه ورسمه وأصله وفصله، لكن الحمد لله على كل حال، إنه موجود، ورزق الله مخترعَه الدفء في مرقده إلى الأبد.
وبين المصريين والكلسون ما بينهم وبين الأهرامات، يجمعهم تاريخ عريق، وجغرافيا جعلتهم يبنون الأهرامات للدفء بعد مماتهم، ويحيكون الكلاسين للدفء قبل مماتهم، فلا يوجَد دليلٌ على هويتك المصرية أكثر من هذا الكائن المقدس، الذي تشعر به إنساناً آخر، وتشعر فيه بأنك إنسانٌ آخر، تشعر بالأنس، وتشعر بالاتزان، وتشعر بأنك سلطان زمانك، وملك عصرك، تشفق على المحرومين منه، تود أن توصي الورثة أن يوزعوه على روحك بعد موتك، ويكتبوا على الأكياس التي سيوزع فيها: "خير لباس لأحسن ناس".
والآن أنادي كل ذرةِ دمٍ باقيةٍ لأحدنا، في الجيل الجديد، نحن، لأننا نفقد مع الوقت إرثاً كبيراً مما وجدنا عليه آباءنا، ونحن لا ندرك قيمته، من أصغر شيء إلى أكبر شيء، فيندثر مع الوقت، بعد أن عاش عمراً طويلاً يزيل الحواجز بين الطبقات، فالكلسون خير مثالٍ على ذلك، إذ كان يرتديه صاحب العمارة والبواب معاً، يشتريانه من المكان ذاته، يدفئهم بنفس الدرجة، يحتويهم ويشعرهم بأن الظاهر وإن تفاوت فإن الباطن واحد، ومن اتَّحدت دواخلهم، لم تضرهم الفروق التي بالخارج.
حتى ديفيد بيكهام اللاعب الأسطورة، الذي إذا شعر بالبرد يمكنه إشعال مليون يورو في مدفأته، أو بإمكانه صنع لحافٍ أخضر من أوراق الدولار.. لكنه لم يفعل ذلك، وإنما حين أراد أن يدفأ، اكتشف مؤخراً ما اكتشفه أجدادنا قبل مئات السنين، ووجد ضالته فارتدى الكلسون. وكان ذلك خلال حملة إعلانية لماركة كبيرة، وهنا بالطبع يسقط عذرك وتدحض حجتك في ادّعائك أن اختراع الكلسون لا يواكب الحداثة، وهنا أسألك باستنكار: ومن أكثر حداثة من "h&m"، ومن أكثر موضة من ديفيد بيكهام؟
وهنا دعوةٌ إلى كل إنسانٍ عاقلٍ يشعر بالبرد مثل أي إنسان، إلى كل مصري يبحث في الحداثة عما يدفئه ويستره، ويبحث في العراقة عما يفخره ويقدره، أن ينظر إلى خزانة جده، فيجد ضالته، أن يراقب أباه فيعرف سر عدم ارتعاده بليالي الشتاء، سيجد الجواب واضحاً، والقول فصلاً، سيجد الجميع يسألون عن السبب، ويجد النتيجة هي هي مهما تغير الزمن: "كلسون يا أسيادنا".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.