ما لا يعرفه الكثير أن الفن، سواء الرسم أو التصوير أو التصميم، أو غيرها من الفنون الجميلة، هو تجسيد لحالة أو انطباع يحدث بزمن معين وينتهي، ووظيفة الفنان هي تحويل ذلك الانطباع أو "الحالة" إلى عمل فني، ولا يهم تراكمات تلك الحالة فيما بعد، فالعمل الفني ينقل الحدث لحظة وقوعه، ولا ينقل ما قبله أو بعده!
أو قل إنه اقتناص أكثر الصور دلالة ورمزية؛ ليخلد الفنان لحظة فارقة في مسيرة الشعوب وثوراتهم ومنعطفات حياتهم، ومن ثم يجردها من أبعاد اللحظة الآنية المشوشة؛ لتصبح أكثر وضوحاً ودقة، صانعاً منها أيقونةً هادفة، وتاركاً فيها أعمق المعاني أثراً صادقاً، فضلاً عن أنه يستلهم معانيه من صنع تلك اللحظة التاريخية من مشاعر صانعيها.
وبما أن لكل عصر أدواته ووسائله التي يخلد بها أحداثه، بدأت مع الإنسان تصاويره منذ فجر حياته ورسوماته على جدران الكهوف، مروراً بكل أشكال الكتابة والتصوير وحتى شكل التنقيطة على آلة الحاسوب في زمن هيمنة العالم الافتراضي على الواقع وأبعاده رغم اختلاف الوسائل.
وما دام الحديث متصلاً بزمن الثورات والحراك فقد شهدت البلدانُ العربية مظاهرات يطالب أهلها فيها بحقوقهم وحرياتهم، ولأن الفن هوية لا يغيب دورها عن أي حراكٍ شعبي تشهده الدول الثائرة، فقد كان لفنانيها وقفات تجسد وتحول مشهداً معيناً إلى عمل فني ثم يصبح أيقونة لتلك الثورة، تتوحد خلفه كل الأفكار وتتلون كل المنصات والساحات بتلك الأيقونة، سواء كانت لوناً لشخصٍ أو تماثيل ولوحاً.
ولأني من العراق، فقد كان لبلدي نصيب من ذلك الظلم الواقع عليه، فقد خرجت الجموع في مختلف شوارع المحافظات العراقية ملبية لنداء الثائرين، ففي الأول من أكتوبر/تشرين الأول، وعلى غير عادتها التموزية في بلاد الرافدين، وتحت ضغط البطالة وغياب الأمل بالإصلاح، انتفضت ثورة الشباب بعفوية وارتباك، تهتف بحناجر مبحوحة وصدور عارية ضد الظلم والفساد.
ولما التحمت الجموع وتعالت الأصوات وسالت الدماء وتصاعد الدخان وسط هذه المعمعة، لفتت الأنظار سيدة بسيطة كانت تبيع المناديل في الشوارع، والتي اتضح لاحقاً أن اسمها (دُنيا)، وهي توزع بضاعتها على أبناء شعبها، وجادت بكل ما تملك بصورة عفوية بطولية أبكت كل من رآها، وكان يبدو على وجهها الخوف والاضطراب.
ولكن الصدمة ورعب السلطة تمكنا من إسكاتها كما أسكتا شبكات الإنترنت ومكاتب القنوات الفضائية، لقد كانت لحظة فارقة اختزلت كماً هائلاً من المعاني.
كانت اللحظة مواتية لفنان يوقف تدفقها، ويجسدها بأكثر المشاهد رمزية؛ ليصنع منها أيقونة تروي قصة هذه المرحلة، وهذا المنعطف الخطير في مسيرة الحياة وتدافعها، وإن كان الفقر والعوز قد سلبا من هذه السومرية كثيراً من مكملات الأنوثة وخصائصها، إلا أن الحرية حرة في اختيار رموزها الذين تتجسد فيهم.
وكفنان أرقب بعين الصياد حركة الحياة ولحظاتها، اقتنصت تلك اللحظة وجسدتها بلوحتي (خرساء العراق) التي تلقفتها المواقع والصفحات، وتدفقت عبر مسارات هذا العالم الافتراضي؛ ليكون لها كل هذا الصدى والقبول والتبني.
كذلك رأينا مثلاً في حراك السودان الأخير تلك الثائرة التي تدعى (آلاء صالح)، وكيف أصبحت معروفة باسم "الكنداكة" بوشاحها الأبيض وعنفوانها وشجاعتها، بعدما ألهمت بقصائدها وكلماتها جموع الثائرين.
وحتى كتابة هذه السطور، رأينا في لبنان تلك الفتاة الثائرة وهي تركل الشرطي بعد أن حاول منعها حقها في التظاهر، لتترك لنا جميع هذه المشاهد مفهوماً بأن الحرية لا تظهر إلا في أنثى ثائرة ومن خلالها إلى الشعوب!
ومما تقدم نصل إلى اتفاق على أن نعامل الرمز والعمل المنشور أثناء كل حراك شعبي بزمانه وساعته بل وثوانيه؛ ليبقى محتفظاً بمعانيه ومشاعره، وألا نخل بمفهومه لاحقاً حينما تتغير المواقف؛ ليجد ذلك الرمز قد تحول إلى مفهوم آخر، فلنحافظ على فلسفة الأحداث وتسلسلها لتبقى محتفظة بدلالاتها الآنية والزمكانية لزمن أبعد من زمن الحدوث ومكانٍ أوسع من تصور الحادثة، وألا نحرف أو نعيد صياغة تلك الأيقونات بعد انتهاء الحدث، فهي آنية لا يمكن التلاعب بها، مهما تراكمت المتغيرات لاحقاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.