محب للشطرنج، يصف نفسه
بالصخرة، يندم دائماً على أمرين؛ الأول بأنه ظل حبيس الدكة مع المنتخب الإسباني في
مونديال 1986، والثاني أنه لم يتدرب تحت قيادة يوهان كرويف.
وما لا يعرفه الكثيرون أنه درَّب منتخب غينيا الاستوائية لمباراة واحدة، بعدها
قالوا له مثل أي موظف فشل في مقابلة العمل: سنتصل بك لاحقاً. ومن يومها لم يرن
هاتفه أبداً بأي رقم قادم من إفريقيا!
أصبح عاطلاً، جلس في بيته عامين كاملين دون عمل، حتى درب فريقاً مغموراً اسمه لوغرونيس، ثم قادته الصدفة البحتة لتولي تدريب فريق لوغو، الفريق الذي عُرف لاحقاً بـ "بارسا غوارديولا" الدرجة الثانية؛ ليعرفه الجميع بعد ذلك، وتتاح له الفرصة لقيادة فريق بالليغا، للمرة الأولى على الإطلاق، ومن لاس بالماس إلى ريال بيتيس، ثم وصله اتصال من برشلونة، دون سابق إنذار. يعتقد الكثيرون أنها نهاية سعيدة لصبره ومجهوده، ومكافأة تأخرت الحياة كثيراً في تقديمها لكيكي سيتيين، لكن الحقيقة أن الرحلة قد بدأت للتو.
من برشلونة المظاليم إلى برشلونة الحقيقي
قصة كيكي تشبه حكايات الخيال، درَّب عدة فرق صغيرة ومغمورة في إسبانيا، والتحق بنادي لوغو في السيغونا عام 2009، مكث معهم لمدة وصلت إلى 6 سنوات كاملة، وحقق نسبة فوز مرتفعة، قياساً بتاريخهم، بلغت 38% تقريباً. ولندَع لغة الأرقام والإحصاءات جانباً الآن؛ لأن هذا الرجل صنع طفرة خططية وسط فرق الدرجة الثانية، مع اللعب بخطة 4-3-3 التي تعتمد على البناء من الخلف، وخلق التفوق النوعي خلف خطوط المنافس بالتمرير الذكي والتحركات الإيجابية من جانب لآخر، لينتقل فيما بعد إلى فريق لا بالماس ويطبق نفس الأفكار في بطولة الليغا في آخر موسمين.
أطلق الإعلام الإسباني على فريق لوغو اسم "برشلونة المظاليم"، بسبب تشابه طريقة اللعب مع العملاق الكتالوني، مع حضور المتعة والإثارة في أغلب مباراياتهم.
يقول سيتيين في حوار قديم مع صحيفة ماركا عام 2011: "الكرة لا تتعب أبداً، مررها كما يحلو لك، ستجدها في الخدمة دائماً. احترم الذكاء، سيطر على الكرة ومرر كرة جيدة، سيفعل زميلك نفس الأمر بعدك، ليصل الفريق ككل إلى المناطق الخطيرة في وضع أفضل، هنا تظهر أهمية الفرديات لحسم الصراع".
تأتي المشاكل عندما تلعب بشكل سيئ، والحديث لسيتيين، عندما تذهب إلى غرفة الملابس تبدأ في التقييم والحكم فيما قدم اللاعبون، قبل أن تناقش النتيجة وعواقبها. إنها نفس المبادئ التي اشتهر بها برشلونة، وحينما فقدها بحثاً عن انتصار زائف، دفع الجميع الثمن فيما بعد؛ لأن أساس هذا النادي كُرته الجميلة، وبعد ذلك تأتي الأمور الأخرى.
هكذا صنع كرويف المجد في التسعينيات وأعاده تلاميذه في الألفية الجديدة.
يعترف كيكي بأنه ذهب إلى كرويف خلال إحدى مباريات برشلونة وراسينغ سانتاندير، وقتها كان لاعباً مع ذلك الفريق المتواضع، وقال للهولندي بالنص: "أحلم باللعب في فريقك يوماً ما، حتى وإن لم يتحقق ذلك، سأظل محافظاً على حلمي، لأنني من كبار عشاقك ومتابعيك، لقد جعلت الكرة أسهل ونقلت الجانب التخيلي إلى أرض الواقع، فحظيت بتلاميذ من كل صوب واتجاه".
الفوز وسيلة وليس غاية
عمل سيتيين لمدة موسمين مع ريال بيتيس، حوّلهم من فريق دفاعي غير مبادر بالمرة إلى النقيض ممسكاً بزمام الأمور معتمداً على المبادرة والهجوم والاستحواذ، وحشر أعتى الفرق الكبيرة في نصف ملعبها دون خوف، لكنه عانى أيضاً من بعض المشاكل التي كلفته منصبه فيما بعد، كالضعف الدفاعي وتراجع النتائج مع الوقت، بعد أن وصل بطموح المشجعين إلى عنان السماء.
في موسم 2016-2017 وقبل قدوم كيكي سيتيين، كان يحتل ريال بيتيس المركز 15 في جدول ترتيب الدوري الإسباني، لكن "المايسترو" أشعل ثورة في الأندلس ليحصل بيتيس على المركز السادس في أول موسم له مع الفريق، ويصعد إلى نهائيات الدوري الأوروبي لكرة القدم. قبل أن يتراجع إلى المركز العاشر في موسمه الثاني، وتقرر الإدارة الاستغناء عن خدماته بالتراضي، وإتاحة الفرصة أمام اسم جديد.
يلخص كيكي رحلته مع بيتيس في هذا التصريح: "أعتقد أن عليك أن تكسب، تفوز، تحقق الانتصارات، إنها العوامل الأساسية لاستمرارك في عملك، وجعلك تأخذ وقتاً أطول في تنفيذ أفكارك وتطبيق أسلوبك. الفوز غاية للكثيرين، لكن بالنسبة لي وللأقليات غيري، إنه أقرب للوسيلة، التي تسمح لك بفترة أطول، من أجل مواصلة التطوير".
لم ينجح سيتيين على طول الخط مع بيتيس، لكنه لم يفشل أيضاً، لأن هذا النادي قبله كان في أسوأ حال، ومن بعده يعاني كثيراً، خاصة في الوقت الحالي. لكنه ساهم ولو بقدر بسيط في تغيير أسلوب لعب الفريق، وإقناع اللاعبين بالسير وفق رؤيته الخاصة.
يصف المدرب هذه الحالة بالقول: "في نهاية المطاف، أصبح معظمهم لاعبي كرة قدم محترفين، لأنهم لم يكونوا بدون كرة منذ أن كانوا أطفالاً، في المنزل، في الشارع، في الملعب. حتى أقل الموهوبين فنياً يريدون الكرة بين أقدامهم، ليس فقط لأخذها بعيداً عن الخصم، أو للدفاع. فقط للعب. إنها الفطرة الأولى للشخص، الطفل، الرجل، المشجع، واللاعب، هي لعبة كرة القدم في مفهومها الأول والطبيعي".
على خُطى كرويف
"أتذكر عندما جاء يوهان كرويف إلى برشلونة كمدرب. لقد لعبت ضدهم، وقضيت المباراة بأكملها أركض خلف الكرة. قلت لنفسي: "هذا ما أحبه، أود أن أكون في هذا الفريق، وأعرف سبب حدوث ذلك. كيف يمكنك الحصول على فريق، يستحوذ بشكل دائم، يجبر الخصم على الانصياع لأوامره، يجعله يفكر فقط في رد الفعل لا الفعل مهما حدث. منذ ذلك الحين، قررت خوض مهنة التدريب بمجرد اعتزالي اللعب. بدأت حقاً مشاهدة كرة القدم، لتحليلها. لفهم ما شعرت به، وما أرغب في تنفيذه. عندما أصبحت مدرباً كنت أرغب في الحصول على الكرة، لقد كانت ثورة، تأثر بها الكثيرون، خصومها قبل أنصارها".
- بهذه الكلمات يتحدث كيكي سيتيين عن مثله الأعلى، يوهان كرويف، أستاذه الذي تأثر به رغم أنه لم يدربه أبداً، ولم يلعب تحت قيادته ولو يوم واحد، لكن تمر الأيام وتدور السنون، ويرحل العراب الهولندي عن عالمنا، ليجلس كيكي في بيته لأكثر من عام، قبل أن تأتيه الفرصة على طبق من ذهب، لتدريب نادي برشلونة، وكأن الأمر أقرب إلى القصص والروايات الأسطورية.
من المستحيل أن يقول للاعبه لا تراوغ، لكنه في المقابل دائماً يرسم ويتخيل شكل اللعب، كيف تنتقل التمريرة من قدم لقدم، وكيف تؤثر كل حركة على نظيرتها داخل الملعب، مع وضع اللاعب في المكان الصحيح، ليس بالضرورة نفس المكان طوال المباراة، لكن المهم أن يشغل لاعبوه كافة الفراغات المتاحة، بالكرة ومن دونها، في سبيل اللعب التموضعي على الطريقة الإسبانية، أو كما يعرف تكتيكيا بالـ Juego de Posición.
يفضل المدرب الدفاع والهجوم بالكرة، حيث أن اللاعبين يريدون الكرة لا مطاردتها، كل لاعب سيعطيك أفضل ما عنده عندما تعطيهم السبب الرئيسي الذي جعلهم يحبون هذه اللعبة. لا يوجد من بدأ ممارسة الكرة من أجل الدفاع أو مطاردة الخصوم. عندما تقف في المنطقة الآمنة، لا تتطور ولا تتراجع، ستظل كما كنت، محلك سر، لا أحد سينظر إليك أو يهتم بك.
ملاحظات تكتيكية وشخصية هامة
كيكي سيتيين له مزايا عديدة في اللعب الهجومي والمبادرة والسير على خُطى كرة كرويف تاريخياً، لكنه مندفع خططياً بعض الشيء، يظهر ذلك بوضوح من خلال الأرقام السيئة لدفاع بيتيس تحت قيادته. ومع ضعف دفاع برشلونة هذا الموسم، فإن المعضلة لن تنتهي دون إضافة تعاقدات جديدة في هذا المكان، حتى يرفع اللاعبون قوة المنظومة دفاعياً إلى مسار أعلى، كما حدث على سبيل المثال مع فان دايك وليفربول، وبعدها يتم العمل على تحسين الدفاع جماعياً وتكتيكياً.
لكي تنجح في برشلونة كمدرب، خاصة بالوقت الحالي، ليس بالضرورة أن تكون قوياً تكتيكياً فقط، أو حتى تفهم الكرة بشكل مغاير، لأنك ستصطدم حتماً بغرفة ملابس تضم عدداً كبيراً من النجوم، بالإضافة لأنك ستتعامل مع إدارة ترى اللعبة من منظور ضيق للغاية، ولنا مثال بالإصرار على استمرار فالفيردي بعد كارثة الأنفيلد وخسارة نهائي الكأس، ثم إقالته منتصف الموسم رغم أنه قدم مباراة مميزة أمام أتليتكو مدريد، في بطولة تعتبر أقل بطولات الموسم أهمية، كالسوبر الإسباني.
تتوافق طريقة لعبه مع فلسفة برشلونة، مدرب هجومي لديه أسلوب محبب لعشاق الكرة المبادرة، لكن في اللحظة الحالية لم يكن الخيار الأنسب، في ظل وجود خيارات أخرى مثل ماوريسيو بوتشيتينو على سبيل المثال. الأرجنتيني لديه خبرة أكبر، وعمل لفترات طويلة في إنجلترا مع إدارة معقدة يقودها ليفي رئيس توتنهام، لذلك فإنه كان قادراً على التعامل بشكل أفضل مع بارتوميو ورفاقه، بالإضافة إلى غرفة الملابس ذات الطابع "الشللي"، عكس سيتيين الذي لم يبتعد عن إسبانيا كثيراً، ولم يدرب لاعباً كبيراً أو نجماً شهيراً طوال مسيرته.
نتيجة لهذه الأسباب، فإن مسألة نجاح سيتيين مشكوك في أمرها، مع هكذا إدارة تركز على الظاهر لا المضمون، وغرفة ملابس تعج بالأسماء الكبيرة سيئة العقلية والشخصية، لكن في كل الأحوال، فإن رحيل فالفيردي يعني خطوة للأمام لبرشلونة وجمهوره ومريديه، لأن المدرب السابق نجح في قتل الشغف لدى كثيرين منهم، مما جعلهم يبتعدون تماماً عن مشاهدة المباريات بنفس الحدة. ومع قدوم مدرب جديد -حتى إن كانت نسبة فشله تعادل أو تزيد عن نسبة نجاحه- فإن العودة لمشاهدة البارسا وكُرته ستكون الشغل الشاغل للجميع خلال الفترة المقبلة، في انتظار ما ستسفر عنه هذه المغامرة الجديدة لبارتوميو وشركاه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.