مقدمة لا بد منها
من السهل جداً أن تبدو رفيع الخلق، طيب النفس، سليم السريرة عندما تنتصر. حينئذ أعصابك مسترخية وأهدافك محققة وأفكارك مطبّقة. عندها يكون دماغك مستلقياً فيما يسمى "منطقة الراحة". لكن الصعوبة كل الصعوبة والتحدي الحقيقي يكمن في أن يحافظ الإنسان على حسن خلقه وطيب نفسه ورباطة جأشه عند الخسارة، وأن يتأمل الإنسان ضغوطات الخسارة، ويبقى قادراً على تلبية طموحات المحبين والجماهير المتعلقة به خارج الميدان كما في داخله.
محمد صلاح نفسه خرج علينا يوماً بتصريح أنه اكتسب عقلية التفكير في أوروبا، لكن نسي بنفسه أن المجاملات النقية والابتسامة الخافتة عند الخسارة هي جزء من تلك العقلية، وأنها أحد أهم العوامل القادرة على استعادته لحب الجماهير الذي يخفت تارة ويصعد تارة أخرى.
صاحب الحذاء الممزّق
لن أستسلم
عندما بدأ ساديو ماني رحلته نحو عالم كرة القدم كان الجميع يُخبرونه بمدى مهارته في اللعب، ما عدا أهله، كانوا يحلمون له بمستقبل أفضل، لكن مع رؤية الشغف المتواصل في عينيه نحو تحقيق حلمه استسلموا لرغبته.
يقول ماني: "كنت في المدينة، ألعب على الطريق، في الشارع، أو أي مكان تكون فيه كرة قدم، منذ أن كنت في سن الثانية أو الثالثة أتذكر أنني دائمًا كنت مع الكرة، كنت أشاهد أطفالاً يلعبون في الشارع، فألتحق بهم مباشرة".
"هكذا بدأت، فقط في الشوارع. عندما كبرت كنت أذهب لأشاهد المباريات، خصوصاً عندما يلعب المنتخب الوطني. أردت أن أشاهد أبطالي وأتخيل نفسي مثلهم".
في عام 2002 "كان هناك حماس ضخم وشغف متدفق في البلاد بسبب أداء منتخبنا في كأس العالم، ووصول السنغال إلى ربع النهائي في ظهورها الأول في تلك المسابقة الكبرى، كما فزنا في المباراة الافتتاحية على فرنسا".
لست صديقاً للبطل
لكن في الموسم التالي، مع استقطاب صلاح بدأ شيئاً فشيئاً يدخل ماني في عباءة البطل الأوحد، التي يرتديها محمد، الذي سجل 32 هدفاً وصنع 11 أخرى. وأصبح الملك المصري هو ملك مقاطعة "الميرسيسايد" الأوحد، الذي تنهال عليه الجوائز والترشيحات، أما ساديو ماني ففي الظل قابع لأن المشهد لا يستوعب إلا بطلاً واحداً وهو محمد صلاح.
لم يتقبل ساديو ماني ذلك، الأبطال لا يتقبلون الهزيمة، ولا يرتضون بالمركز الثاني. وهو يؤمن أنه لم يُخلق ليكون الرجل الثاني، لذلك تكوين ثلاثي هجومي لا يتميز أحد عن الآخر بأي ميزات هو الحل، لنبحث عن بعضنا جميعاً وليس صلاح فقط، ومَن يتحرك بقرب منطقة الجزاء هو اللاعب الفارغ من الرقابة.
ليتحول الفيلم من فيلم البطل الأوحد إلى فيلم البطولة الجماعية.
بطل شعبي يبحث عن البهجة
يقول ماني: "لماذا أشتري 10 سيارات فيراري مثلاً، أو 20 ساعة من الألماس، أو طائرتين خاصّتين؟ ماذا ستفعل هذه الأشياء لي أو للعالم؟".
أتذكر أنني "كنت جائعاً، وكان عليّ أن أعمل حتى أكسب قوت يومي، ونجوت من أوقات عصيبة، ولعبت كرة القدم وأنا حافي القدمين، ولم يكن لديّ تعليم أو أشياء أخرى كثيرة، لكنني اليوم بعد كل ما جنيته بفضل كرة القدم يمكنني، ويجب عليَّ مساعدة شعبي".
لذلك "بنيتُ المدارس والملاعب، وأُقدم الملابس والأحذية والغذاء للأشخاص الذين يعيشون في فقر مدقع، وكذلك أمنح ما يصل إلى 70 يورو شهرياً لسكان عدد من المناطق الفقيرة في السنغال".
وأردف: "لا أحتاج لعرض السيارات الفاخرة والمنازل الفخمة والرحلات أو حتى الطائرات، ولكني أفضل أن يحصل شعبي وناسي على القليل مما أعطوني إياه".
الصدق، والإخلاص، والبساطة والتواضع، والكرم، وغياب الغرور، والقدرة على خدمة الآخرين هي صفات في متناول كل نفس، وهي الأسس الحقيقية لحياتنا الروحية وسلامتنا النفسية.
موسم الحصاد وقطف الثمار
دائماً ما كان ساديو ماني الرجل الأول في الاحتفال بزملائه، بالرغم من أنه هادئ الطبع، إلا أنه يحب زملاءه بشغف، فهو مَن رقص لمحمد صلاح رغم الخسارة في حفل الموسم الماضي. وهو مَن اعترف بأحقّية محرز بالجائزة عندما نالها الجزائري، لكنه أبداً لم يكن متقبّلاً للهزيمة، بل إنه يعترف بها لكي ينهض ويعمل أكثر وأكثر، حتي جاء وقت قطف الثمار، وأصبح أفضل لاعب في القارة السمراء.
يقول نيلسون مانديلا إن التعاطف الإنساني يربطنا ببعضنا، ليس بالشفقة أو بالتسامح، ولكن كبشر تعلّموا كيفية تحويل المعاناة المشتركة إلى أمل للمستقبل.
أتمنّى أن تحتفي الجماهير المصرية بساديو ماني وكأنه مصري، لأنه قدوة لكل حالِمٍ بمستقبل أفضل، ولا يوجد شعب أكثر حاجة للحلم من المصريين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.