من الواضح أن الأمر بدا مختلفاً هذه المرة، فقد أحرجت غارة مطار بغداد الدولي قادة محور المقاومة الإسلامية تجاه قاعدته الشعبية، خصوصاً أنها استهدفت أهم اثنين من قادته، كما أن الغارة جاءت بعد ثلاثة أيام فقط من محاولة اقتحام مبنى السفارة الأمريكية في بغداد، حيث هدّد خلال تلك التظاهرات كبار قيادات الفصائل بالرد العنيف على المصالح الأمريكية وقواتها العسكرية المنتشرة في العراق، وبالرد على أي عدوان أمريكي على فصائل الحشد الشعبي، على الرغم من أن فصائل محور المقاومة مشغولة في ساحات أخرى من العراق وسوريا؛ من جهة أخرى، لم تستطع إيران، وهي التي فقدت أحد أهم جنرالاتها الموكلة عليه تصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج بفاعلية إحياء روح المقاومة المسلحة، أن تلتزم الصمت؛ لذلك أصبحت فصائل محور المقاومة في العراق وسوريا ولبنان واليمن ملزمة برد محدود ومضبوط تستطيع من خلاله أن تؤكد لقواعدها الجماهيرية أنها لا تقف مكتوفة الأيدي إزاء الاستهداف الأمريكي، مع عدم التصعيد إلى درجة تخرج فيها الأمور عن نطاق السيطرة، وتذهب في اتجاه مواجهة لا تستطيع فصائل محور المقاومة دخولها في هذه المرحلة.
من خلال الأسباب المذكورة، يبدو أن تقديرات أطراف الأزمة كلُّها تصب في خانة عدم التصعيد، ومن الجلي أن هذا الأمر هو الذي كان يعنيه ترامب في سياق قوله: "إيران لم تربح حرباً لكنها لم تخسر المفاوضات"، وأيضاً قول للمرشد الإيراني: "لا يريد الحرب لكنه لا يخشاها"، وقد أشارت وكالات إيرانية إخبارية إلى رسالة من أمريكا عبر إحدى الدول العربية "قد تكون قطر" إلى إيران؛ تفيد بعدم رغبة أمريكا في التصعيد.
ولقد قابلت هذه الرغبة رغبة المرجعية العليا في النجف متمثلة بالاحتواء، وعدم التصعيد. لكن ذلك لا يعني بالضرورة أن الطرفين قبِلا بالعودة إلى التهدئة قبل آب/أغسطس ٢٠١٨، خاصة أن الشيخ قيس الخزعلي وأبو آلاء الولائي وآخرين قد تحدثوا عن سقوط حق الاتفاقية والحليف والضيف عن الولايات المتحدة الأمريكية وسفارتها في العراق بسبب استهداف لواءي ٤٥ و٤٦ في منطقة القائم غرب الأنبار الأسبوع الماضي؛ وهو ما يعكس خوفاً متزايداً من مواصلة أمريكا استخدام تكتيك "ضربة بضربة" وقد تصنع إحدى تلك الردود فوضى غير مسيطرة عليها تدخل العراق في حرب لا طاقة لأحد على الهروب أو النجاة منها.
ماذا تريد إدارة ترامب من العراق؟
إدارة ترامب تبني إعادة سياستها في العراق في ضوء زيادة الانخراط العسكري، بهدف حماية المصالح الأمريكية في المنطقة والعراق، وتأكيد سيادتها كقطب أوحد متحكم سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.
تدرك إدارة ترامب أن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الأقوى في العراق خاصة بعد انتخابات أيار/مايو 2018، بعد تعاظم قدرات فصائل المقاومة العراقية في العراق وسوريا في ملف مجابهة تنظيم داعش، وهو ما يقتضي الدفع بالسياسة الأمريكية نحو قرارات مغامرة بالتنسيق مع اللاعبين الدوليين، كروسيا، واللاعبين الإقليميين، كدول الخليج.
على الرغم من أن تصريحات ترامب تدلنا على توجهه إلى إحداث تغيير في توازن القوى السياسة الداخلية العراقية، والميل نحو تعديل موقف الأحزاب السياسية الشيعية غير المنسجمة مع إيران وتقوية السنة والكرد ضمن تقارب أو تحالف سياسي، إلا أن النفوذ العسكري الأمريكي في العراق يعد أحد جوانب الاستمرارية في الدعم الأمريكي للحكومة العراقية.
يتبين لنا من خلال مواقف الإدارة الأمريكية لدونالد ترامب خاصة في شدتها باستخدام تكتيك "ضربة بضربة"، سعيها إلى استعادة مكانة الولايات المتحدة في العراق التي أخذت بالاندثار السريع منذ عام ٢٠١١، وبدافع الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية تسعى إلى رفع قواتها المسلحة من ١٠ آلاف عنصر مسلح إلى نحو ١٥ ألفاً، وهذا العدد يعتبر غير كافٍ إذا ما أعلنت فصائل المقاومة العراقية الحرب بالضد منها، فهذه الفصائل اليوم لديها جناح سياسي وحكومي وإعلام ومال وعلاقات وخبرات وتسليح نوعي وموارد بشرية كثيرة وحاضنة جماهيرية، وتالياً سوف تعود إدارة ترامب إلى خفض التصعيد والسماح للوسطاء بتيسير حوارات التخفيض، وكذلك سوف تعمل فصائل المقاومة على التهدئة والتربص بالفرص الزمانية والمكانية المناسبة للرد القاسي، وهذا قد لا يكون سريعاً.
ضربة بضربة
لم تعد اتجاهات التحليل قادرة على استيعاب التحولات الخطيرة في قرارات ترامب التي شهدتها ساحة العراق على مدار الأيام السبعة الماضية، حيث أصبحت "الصدمة السريعة والمكثفة واللامتوقعة" هي النسق السائد، وفي ظل التعقيد والتداخل بين اتجاهات الصراع المختلفة، واندثار الحدود الفاصلة بين الدولة واللادولة، وتآكل النظام بسبب تقاسم السلطة التقليدية بين الفاعلين والفصائل المسلحة، وتعدد البيانات الرسمية وتناقضها، كل ذلك ساهم في إنهاك قدرات المحللين السياسيين ومتابعي الشؤون العامة على استشراف القادم.
فصائل المقاومة الشيعية العراقية لديها القدرة والخبرة على التكيف مع الهزيمة وتعويض قياداتها بقيمة المثل، والاستعداد الوقائي والاستعداد لمواجهة السيناريوهات المجهولة والعنيفة غير القابلة للتوقع من قبل إدارة ترامب.
وإن إرث المهندس يبدو أشبه بمدرسة تنظيمية لها تجربتها العراقية الخالصة، لكن من الذي سوف يكمل تلك المسيرة في دمج تلك الفصائل داخل جسد الدولة العراقية لحمايتها من التهديدات المتعددة.
وإن باقي القيادات الفصائلية الشيعية سوف تتنافس على زعم حقها في إرثه وهو تغيير سلم الأولويات في جسد المؤسسات الأمنية العراقية.
وكمراقب فإن اغتيال المهندس سيعقد الأمور كثيراً في العراق على المدى القريب؛ لأن المهندس كان نقطة التواصل والتهدئة بين جماعات اللادولة والدولة.
واغتيال سليماني إعلان حرب محدودة من أمريكا ضد إيران وعلى جميع الجبهات، الخليج واليمن وسوريا ولبنان والعراق وإيران وأفغانستان.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.