عالمنا هذا مليء بالمتناقضات الجميلة، الخير نقيض الشر، والقبح نقيض الجمال، والصيف نقيض الشتاء، واليأس نقيض الأمل. اختيارنا للشيء أو لنقيضه نتيجة لعدة عوامل حياتية قد تكون داخلية أو خارجية. نتيجة مثلاً للتربية التي يتلقاها المرء، وللبيئة التي نشأ فيها وكذلك لمجموعة من المؤثرات الخارجية مثل مختلف العلاقات التي يُكَوِّنها والتجارب والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي… كذلك التأقلم مع هذه العوامل وكيفية التعامل معها حصيلة للتكوين وطبيعة الشخصية ومستوى الوعي… الخ.
لطالما كنت شاهدة على عدة تصرفات في الشارع العام تستفزني وتثير غيظي، حيث يمُرّ الأول بسيارته الأنيقة ملقياً من نافذتها بقارورة الماء الفارغة، والثاني يتجاهل ممر الراجلين وكأنه لا وجود له، وآخر يمشي فوق العشب الأخضر غير آبه… وغيرها من المشاهد المنَفِّرة، التي تنم عن لا مبالاة وغياب لقيم المواطنة في مجتمعاتنا. الغريب في الأمر أن الجميع يتعامل مع هذه التصرفات على أنها عادية وطبيعية، بل إننا إذا سألنا هؤلاء الأشخاص فلن يجدوا الخطأ فيما يمارسون من أفعال يومياً، لأنهم تَعَوَّدُوا عليه وسيدافعون عنه باقتناع تام.
في نظري ينم هذا عن خلل كبير في التربية، وكذا عن أنانية ولا مبالاة تامة لما يمكن أن يشعر به الآخر عند ارتكابنا لأخطاء جسيمة نعتبرها طبيعية. لقد أصبحت الأخلاق وقواعد المعاملة في دولنا شبه منعدمة، والناس أصبحوا فاقدين لأدنى صفات المواطنة فبدون مواطنة لا تستقيم الشعوب ولا تتقدم، بدون مواطنة لا نستطيع التحدث عن شعوب واعية بما لها وما عليها.
للمواطنة في نظري معايير عدة لا يمكن أن تقوم إلا بها، فليكون الشخص مواطناً سوياً يجب أن تجتمع فيه شروط عدة من ضمنها:
أولاً: أن يكون دائماً مستعداً لتقديم المساعدة للآخرين حتى لو لم يُطلب منه.
ثانياً: أن يتعامل مع البيئة الخارجية كما يتعامل مع بيته. يؤسفني أن أرى الناس يَتَخَلَّصون من الأشياء التي لا يرغبون فيها في الشارع العام بطريقة لا تليق، مع أنهم لا يفعلون كذلك في منازلهم.
ثالثاً: أن يلتزم بأبسط مبادئ الأخلاق العامة في وسائل النقل والأماكن العمومية بصفة عامة.
رابعاً: أن يحترم الآخرين ولا يَسُبَّهم ولا يبغضهم فالشعوب تقدمت لأنها اتحدت.
خامساً: ألا يمارس حقوقه على حساب حقوق الآخرين.
وأخيراً وفي نفس السياق أن يؤدي واجباته تجاه المجتمع إلى جانب المطالبة بحقوقه.
ولا ننسَ أن على المجتمع والأسرة والمؤسسات والجمعيات أن يضعوا يداً في يد من أجل بناء مواطن سوي. دور الدولة والأسرة في توفير التربية والتعليم اللازمين هو الأساس. لا يمكننا التكلم عن المواطنة دون تربية صحيحة مواكِبة للعصر قائمة على المبادئ والقيم. وجدير بالذكر أن الدولة والأسرة تكملان بعضهما في هذا الصدد، الشيء الذي نفتقر إليه في بلداننا العربية. دور الجمعيات في تأطير واحتواء الشباب وفئات أخرى مهم جداً، بل إنها مطالبة بتوفير برامج مُكَمِّلَة ومناسبة لكل فئة وقائمة على استجابة للاحتياجات الحقيقية. كما لا ننسَ دور التربية السياسية في بناء الشخصية المواطِنة والوعي المجتمعي الذي يمَكِّن الشعوب من مساءلة المؤسسات والمجتمع.
في النهاية، لولا القبح لما استشعرنا معنى وقيمة الجمال. ولن نستطيع يوماً أن نلتحق بركب الدول العظمى إلا عبر الاستثمار في الرأسمال البشري. فلنبنِ الشعوب قبل أن نبني الحجر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.