في شرق المتوسط تتوتر علاقات القاهرة وأنقرة بعد اتفاقية أبرمتها الأخيرة لترسيم الحدود البحرية، بينما يحتدّ في شماله الصراع بين باريس وروما أو كما يسمّيه بعضهم صراع شركتي "توتال وإيني" كناية عن تعارض مصالح النفط والغاز بين الجارين الأوربيين، وأثناء ذلك يمعتض العم سام من دور الدب الروسي، بعد أن طالت يداه بلداً ظلّ طوال تاريخه المعاصر أقرب إلى النفوذ الغربي، والحديث هنا دون شكٍّ عن ليبيا.
في الأوساط العامة، ظلت الإجابة عن أبعاد الاصطفاف الإقليمي تأتي من جراب السياسة بصورة تقليدية، على اعتبار أن التنافس في ليبيا هو جزء من صراع المحاور في المنطقة، ومحاولة بعض القوى الإقليمية إيجاد موطئ قدم لها في تشكيل حالة ما بعد القذافي، وهو إطار تفسيري يمكن استخدامه لفهم الصراع بصورة بانورامية ومن منظور خارجيٍ فحسب، غير أنّه نموذج قد لا يستقيم ولا يقدّم نتائج تفسيرية لمن يريد فهم الصراع الليبي من داخله وعبر دينامياته ومحركاته المحلية.
ورغم أني أؤمن بأن التاريخ لا يعيد نفسه بصورة متطابقة كما يقول كارل ماركس، ولا أتبنى مقاربة تؤكد حتمية الجغرافيا على غرار ما يراه أرسطو أو إيان موريس وجاريد ديموند، لأنه دائماً ثمّة خصوصية زمنية لكل جيل تفرض بطبيعتها تحديات مختلفة نسبياً، لا سيما ونحن نعايش عصر التطور التكنولوجي الباهر الذي يحدّ من تأثيرات ما سواه.
إلاّ أنه في نظري ظلّ حضور التاريخ الاجتماعي والجغرافيا السياسية دائماً في العقل الليبي أقوى من أي مقاربات أيديولوجية أوثقافية، ليؤسس ما يمكن تسميته بـ"الثنائية السياسية" وأقصد هنا ثنائية الشرق والغرب، أو كما عرف تاريخياً باسم برقة، في مقابل طرابلس، وهما الإقليمان اللذان بقيا على مر العصور يحملان خصوصية مختلفة تاريخياً، ولم تكن تلك "صدفة تاريخية" كما لاحظ أستاذ الجغرافيا السياسية الراحل جمال حمدان في كتابه عن ليبيا، والذي أشار فيه أيضاً إلى أن الاقتسام مراراً وتكراراً بين أكثر من قوة خارجية ظل أحد أهم ملامح التاريخ الجيوبوليتيكي لليبيا، وأن هناك 7 أو 8 حالات على الأقل وقعت فيها برقة لقوة أجنبية، في حين خضعت طرابلس لقوة أخرى.
فالجغرافيا الليبية كانت دائماً مهددة في وحدتها على مر تاريخها، بدءاً من الإغريق والفنيقيين مروراً بالبيزنطيين ووصولاً إلى الإنجليز والفرنسيين والطليان قبل إعلان الاستقلال، ويعود ذلك إلى التكوين الطبيعي لكيان ليبيا والانفصال الجغرافي الشاسع بين حدود طرابلس وبرقة، وهو ما صعّب من وجود تبادل تجاري وزراعي وحدّ من إقامة علاقات اجتماعية بين سكان الأقاليم، بالإضافة إلى طبيعة الجوار الجغرافي، فقد ظلّت برقة تتوجس من جوار مصر التي كانت تتطلع دوماً لأدوار توسعية وهو ما جعلها أقل انفتاحاً، على خلاف طرابلس وجوارها المغاربي الذي ظل تاريخياً أقلّ حدّة وأدى إلى حالة انفتاح أكبر نسبياً.
في التاريخ المعاصر كانت مقاومة الاحتلال الإيطالي بمثابة العقد الذي انتظمت فيه ملامح الهوية الوطنية الحديثة، على أساس وحدة العدو أولاً ولأن المحتل تعامل مع ليبيا باعتبارها كياناً سياسياً موحداً ثانياً، كما أنّ طبيعة المعارك ضد الإيطاليين تطلبت في أحيان كثيرة حركة مختلفة في مناطق البلاد، ما أسس لتعاون وتنسيق بين الأقاليم، تُوّج في نهاية المطاف بلحظة الاستقلال.
وعندما نالت ليبيا استقلالها الذي جاء نتيجة جهود مضنية وتنازلات من زعماء أقاليم ليبيا الثلاثة، مستفيدين من التغيرات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، ظهرت أسئلة محورية بشأن النظام الاتحادي، ولمن ستؤول عاصمة البلاد؟ وكيف سيدار الحكم؟، إلاّ أن رغبة قادة البلاد في حينها بإنهاء الاحتلال وإفشال مشروع الانتداب دفعت باتجاه تأجيل تفكيك الخلافات بشأن تلك القضايا، ليعود صدى تلك الخلافات بعد ذلك بين برقة وطرابلس حين ألغى الملك إدريس العمل الحزبي ومارس التضييق على العمل السياسي، لتجد القبيلة منذ ذلك الحين فرصتها في أخذ زمام العمل السياسي وملء الفراغ، وخطاب القبيلة بطبيعته خطابٌ تمجيدي غير متجاوز لمسألة العرق والأصل، بخلاف العمل السياسي الوطني والحزبي الذي يتحرك في فضاءات أوسع، وكان ذلك الإجراء سبباً في تضييق دوائر ومساحات المشترك الوطني ورسم هوية موحّدة معمّقة.
ومع تحول البلاد نحو الإدارة المركزية وإنهاء الحكم الفيدرالي عام 1963 وبالتزامن مع اكتشاف النفط وبدايات تصديره؛ نشأت موجات من عدم الرضا لا سيما في برقة التي احتضنت انقلاب القذافي وكانت النواة الأساسية لتحركاته عام 1969، رغم أنها كانت قبل ذلك الحاضنة الرئيسة للحركة السنوسية، وساهم في ذلك أيضاً مع صيحات المد القومي وصعوده في المنطقة التي عجّلت هي الأخرى بولادة تغيير سياسي جديد في البلاد.
لم يستطع القذافي صناعة نظام إداري يستوعب طبيعة الجغرافيا والديموغرافيا الليبية، بل سعى منذ البداية لتعزيز سطوة المركزية في الإدارة والحكم وألغى نظام المحافظات في مقابل توسيع دور "الإدارة الشعبية" والتي تُعدّ تعبيراً عن مفهوم سلطة الشعب، ليتراجع دور الإدارة البيروقراطية، وبالتزامن مع ذلك مارس حالة من تفكيك العلاقات الاجتماعية بين سكان الأقاليم، في إطار ترسيخ نظامه الجماهيري القائم على سردية أيديولوجية ثورية بعيدة نسبياً عن مطالب التوزيع العادل للثروة والمشاركة الواسعة في حكم البلاد، ما أدى لزيادة مساحات التهميش السياسي والاجتماعي في عهد القذافي.
لم تكن المطالب الجهوية والفئوية حاضرة بصورة واضحة في شعارات ثورة فبراير الأولى التي أطاحت بحكم القذافي رغم أن مطالب التنمية والازدهار لم تغب في وعودها، إلاّ أن الدعوات والمطالبات بإعادة النظر في منظومة الحكم والإدارة بدأت تتسع بعد تولي السلطات الانتقالية واتخذت صوراً شتى، بدءاً من المطالبة بتوسيع نظام الحكم المحلي، مروراً بالمطالب الفيدرالية وصولاً إلى هوامش المطالبة بالانفصال، لا سيما في ظل معالجات السلطات الانتقالية ما بعد فبراير والتي قامت في أغلبها على منهج علاج الأزمة من أعلى لأسفل، دون اللجوء لفتح حوارات مجتمعية معمّقة عن أساليب الحكم والإدارة، وهو ما تحوّل فيما بعد إلى أصوات وخطابات احتجاجية جرى توظيفها ويجري تطويعها وإعادة إنتاجها بصورة مستمرة في تأجيج حالة الحرب الدائرة منذ عام 2014.
كل ما سبق لا يجب أن يؤسس لحتمية قد تفرضها حقائق التاريخ وظروف الجغرافيا، لأن هناك شعوباً وبلاداً صنعت ما هو أكثر استثناء من ذلك، بيد أن إنهاء خطابات التأجيج والسرديات الصراعية يبقى رهيناً بقدرة الليبيين على صياغة تفاهمات معمقة حول القضايا الإشكالية وإدارة حوارات بنّاءة بشأن الخلافات التاريخية بصورة تتجاوز فكرة المغالبة والصراع إلى أجواء التفاوض والمصالحة، وفي إطار مناخٍ غير مؤسس على التشنج والتوظيف غير الموضوعي لحقائق التاريخ، كي لا تتحوّل المفاوضات إلى عملية سياسية تؤسس لسطوة الدولة المركزية وتوزيع النفوذ بين أقلية سياسية هدفها المكسب اللحظي، وليس الاستقرار والسلام الاستراتيجي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.