"أنا عارف إنك كنتي هاتقعدي في البيت عاجلا أو آجلا.. أصلا الست ماتقدرش تشتغل وهي معاها أطفال لا يصح إلا الصحيح يا جماعة"، قالها زوج صديقتي لي بنبرة انتصار أمام الجميع خلال إحدى المناسبات الخاصة، التي جمعت عدداً غير قليل من أصدقاء زوجي وزوجاتهم، معلناً أن وجهة نظره التي طالما أقنع بها زوجته هي الصحيحة بالتأكيد.. زوجته التي تعاني اكتئاباً شديداً وتسألني كلما زرتها عن جدوى الحياة إن كانت الأيام تشبه بعضها بهذا الشكل المقيت.
كان هذا حين أعلنت للجمع "أنا قعدت من الشغل"، عقب رحلة عمل استمرت منذ عام 2007 حتى 2019، تراوحت النظرات على الوجوه بين ابتسامة ماكرة تقول في صمت "أخيراً" ووجوه مصدومة باعتبار النموذج الناجح قد أعلن استسلامه أخيراً، بينما لمحت تلك النظرة بالذات على وجه زوجة مُحدّثي، كانت نظرة ارتياح شديدة، هي لا تكرهني، هي فقط لم يعد لديها ذلك النموذج الذي يؤرقها ويجعلها تفكر في جدوى وجودها باعتبارها "عاطلة وفاضية"، حسب ما يذكرها زوجها باستمرار.
الحق أنه لم يكن قراراً سهلاً على الإطلاق، 12 عاماً من العمل اليومي المتواصل، سباق اللحاق بالبصمة والركض خلف المواصلات، الكثير من الضغط المعنوي والمادي، والمحاولات المستميتة لإرضاء رؤسائي، بمواصلة بذل المزيد من الجهد، أتلافى خصماً هنا، وجزاء هناك، أرحل راكضة أيضاً كي ألحق ببيتي وصغيري وعائلتي التي تفتقدني وأفتقدها أكثر، الساعات الضائعة في المواصلات، فكرت كثيراً في الخطوة لكنني لم أجرؤ يوماً على اتخاذها، فأنا بحاجة إلى الراتب، وبحاجة أيضاً إلى ذلك الأثر النفسي الطيب الذي أشعر به عقب كل مرة أحرز فيها إنجازاً أو أتلقى فيها ثناءً يزيل عني متاعب المهنة وينسيني كل تلك الأفكار حول الاستقالة والمكوث بالمنزل، لكن ما إن يزول خدر الإنجاز وسعادة الحدث حتى يعاودني الشعور باللاجدوى.. ما فائدة حياة بلا حياة، لماذا أعمل إن كنت لا أعيش في حقيقة الأمر، الحياة بالكامل مؤجلة، أسرقها في أوقات قليلة مع شعور متواصل بالذنب والتقصير لكنني فعلتها أخيراً، والحق أنه كان قراراً هادئاً، ومدروساً إلى حد بعيد.
حين أنجبت طفلي الأول عدت إلى العمل عقب ثلاثة أشهر فقط من ولادته، لم يكن الأمر سهلاً على الإطلاق، خاصة أن صغيري كان يرضع بشكل طبيعي ولا تسمح حالته الصحية بإدخال ألبان صناعية، كنت أظل طوال الليل أعتصر صدري من أجل الوفاء باحتياجاته في اليوم التالي من الحليب؛ لمن لا يعرف، ملء قنينتين بالحليب، بالإضافة إلى إرضاع الصغير خلال فترة التواجد بالبيت أمر مرعب ومؤلم إلى حد بعيد، هكذا كانت فترة وجودي بالمنزل تتحول إلى عملية إدرار حليب متواصلة، لكن هذا لم يكن كل شيء.
أنتِ غائبة عن صغيرك طوال اليوم تقريباً، لذا من الوقاحة أن تظهر عليكِ أي مظاهر تعب أو إرهاق حين تعودين، عليكِ أن تعوضيه عن غيابك، بالابتسام واللعب والمشاكسة حتى يشبع منك، عليكِ الوفاء باحتياجات المنزل وأهله، طهي الطعام، غسل الملابس، ترتيب المنزل، عليكِ أن تنامي بشكل جيد حتى تتمكني من العمل بشكل مُرضٍ في اليوم التالي، ولا تنسي أنك تقضين الليل في إرضاع الصغير وتغيير ملابسه وهدهدته في الليالي التي يستعصي عليه فيها النوم.
حين أنجبت طفلي الثاني، ظللت أفكر طويلاً، هل سأعيد الكرة؟ أترك صغيري ذا الثلاثة أشهر من أجل اللحاق بالبصمة؟
ظلمت نفسي إلى حد بعيد في المرة الأولى، لذا لم أرد تكرار الخطأ في المرة الثانية، فمن الخطل أن يرتكب المرء الخطأ ذاته مرتين متتاليتين.. صحيح أن زوج صديقتي فرح بمكوثي في المنزل لكن فاته أن يسأل نفسه ذلك السؤال الذي يفوت الكثيرين:
هل الطموح مرتبط بالعمل اليومي؟ وهل يعني المكوث بالمنزل تخلّي المرء عن أحلامه وأمنياته؟
إجابة تلك الأسئلة صادمة إلى حد بعيد، فالعمل اليومي، حتى داخل أعرق وأكبر المؤسسات يقضي على الطموح الشخصي، يجعله قاصراً وصغيراً وقريباً بشكل مرعب، أنت لا ترغب سوى في ترقية أو علاوة أو الموافقة على إجازة لأيام أكثر، هل هذا ما كنا نحلم به في طفولتنا؟ هل هذا هو المشروع، أن نتحول إلى مجرد ترس في آلة عملاقة؟
يقود هذا إلى السؤال الأهم: هل العمل داخل مؤسسات هو الشكل الوحيد للعمل؟ إننا بلا ثمن في الشركات والمؤسسات التي نعمل بها، نحن مجرد أفراد، أرقام، لا نعني لهم شيء، في أي وقت يمكنهم الاستغناء عنا، لأن هناك الكثيرين يمكنهم القيام بما نقوم به، سواء كانوا أكفاء أو لا، اجتهادنا من عدمه لا يعني شيئاً، وإن رحلنا في يوم فلن يتوقف العمل لحظة، لكن ليس هذا الحال مع طفلي، فأنا أعني لهم الكثير، وجودي مؤثر وغيابي قاتل، أول أمس نظرت لطفلي الثاني، كان يتأملني باهتمام شديد ويبتسم لي بحب وانبهار، في تلك اللحظة شعرت بغصة شديدة بقلبي، وتذكرت كيف تركت طفلي الأول، حين كان بنفس العمر، خلال ساعات النهار كي أواصل عملي الذي لا أتذكر حتى ما هو وقتها، ماذا فعلت خلال هذا الوقت الثمين؟ في كم حياة أثرت التأثير الذي كان من الممكن أن أوفره لصغيري؟
لم أتخذ قراري بناءً على دوافع عاطفية، على العكس تماماً، كانت حساباتي محكومة بالعقل والمنطق، وبأي الاختيارات يساوي مكسباً أكبر، هكذا بدأت في حساب الخسائر والمكاسب في كل اختيار، هل أستمر في عملي وأعيد التجربة من جديد، أم أمكث بالمنزل واستثمر في طفلي، ونفسي، وعائلتي؟
رجحت كفة الاختيار الثانية، لكن هذا تطلب الكثير من التحضيرات والتفكير كي يكون القرار صائباً، فكي تتخذ المرأة العاملة قرارها بالمكوث بالمنزل عليها أن تمتلك صورة واضحة عن طموحها والأهداف التي ترغب في تحقيقها، في هذه الحالة لا يكون المكوث بالمنزل إلا إعادة ترتيب للأوراق، والوقت والأدوار، بعيداً عن الإجبار والمواعيد الإلزامية، والتكليفات، الوقت لمن يستحقه أكثر وليس لمن يستطيع أن يدفع.
لا يعلم زوج صديقتي أنني بتوفيق من الله مازلت أعمل، ولكن في الأوقات التي تناسبني وعائلتي، مازلت أحتفظ بقائمة المهام اليومية المتخمة، ومازلت أخطط لأسابيع وسنوات قادمة، لكن الفارق أنني الآن أملك صورة أوضح للشخص الذي أرغب في أن أكون عليه خلال السنوات العشر القادمة.
تحسنت الكثير من التفاصيل الخاصة بحياتي، أصبح منزلي مرتباً بشكل أفضل، وبدأت أتقن الطهي بعدما كان محل انتقاد الجميع، أعتني بطفلي وأجد وقتاً للمذاكرة مع الطفل الأول، أتواصل بشكل أكثر عدلاً مع عائلتي وأشعر بأنني على قيد الحياة بشكل أو بآخر، صحيح أن العمر الصغير نسبياً لطفلي الثاني يعيقني عن الكثير من الأمور، لكنها كانت لتصبح أسوأ لو كنت اخترت العمل، كما أن هذا مؤقت.
أعلم أن المكوث بالمنزل "بعبع" يخيف الكثير من السيدات العاملات، وأعلم أيضاً مقدار الإحباط والاكتئاب الذي يسيطر على ربات البيوت، تلك الحسرة على الأيام التي تمر بلا إنجاز أو نجاح يذكر، لهن أقول المسألة لا تتعلق بالعمل بدوام أو المكوث في المنزل، المكان لا يهم، المهم حقاً هو أنتِ، مشروعك، أفكارك، خططك، قائمة مهامك، ما ترغبين في إنجازه، ما تحلمين بتحقيقه، أمنياتك للسنوات القادمة، لنفسك وأسرتك وحتى أصدقائك، المكوث في البيت لا يعني وقتاً فارغ، والذهاب إلى العمل ليس مرادفاً للإنجاز والنجاح.. النجاح الحقيقي أن تعثري على نفسك وأن تبدئي في العمل على مشروعك الخاص، بجد، وإخلاص، واجتهاد، حتى لو كان مشروعك هو إجادة الطهي والتحول إلى طاهية العائلة المميزة، أو أن تصبحي أما استثنائية لأطفال أسوياء، أو أن تصبحي النسخة المصرية من كوكو شانيل، الأمر كله بيدك أنت، غير خاضع لمكان أو زمان، بقدر ما يخضع لعقلك وإرادتك وخطتك الخاصة جداً.
في تلك اللحظة أتطلع أن أرى وجه زوج صديقي حين يطلع على خططي للعام المقبل، أو حين يعرف كم دورة تدريبية حصلت عليها خلال تلك الفترة القصيرة، كم مهارة جديدة بدأت أجيد، وكم لحظة سعيدة مررت بها ووفرتها لعائلتي الحبيبة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.