(1)
تعرضت بلاد "الربيع العربي"، قبل تسع سنوات تقريباً، لزلزال شعبي غير مسبوق، بدأ سلمياً، وانتهى دموياً، من جانب السلطات المستبدة، باستثناء تونس، وكان من أهم تجلياته، في مصر، دخول جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة) حلبة المنافسة السياسية الحقيقية، بلا قيود سلطوية، لأول مرة في تاريخها، حتى أنها نافست والمتحالفون معها، في جميع الدوائر الانتخابية، وحققت الأغلبية المطلقة في برلمان 2012، ولما بدا لها، أن المجلس العسكري قد اتخذ قراراً بحل البرلمان، مستنداً إلى حُكم صدر (بليل) من المحكمة الدستورية العليا؛ لإبعادها (مبكراً) عن أحد أضلاع السلطة في مصر، وهو ضلع الرقابة التشريع، قررت على الفور، المنافسة على ضلع آخر، هو رئاسة الجمهورية، متراجعة بذلك، عن قرار سابق، اتخذته قبل تنحي مبارك بأربع وعشرين ساعة! أعلنت فيه أنها لن تنافس على أكثر من 30% من عدد مقاعد البرلمان، أي (الثُلث المُعَطِّل) لإصدار أي قانون، تراه الجماعة في غير صالح (الثورة)، وأنها لا نية لديها للمنافسة على رئاسة الجمهورية.
منذ ذلك التاريخ، وجماعة الإخوان المسلمين، والرئيس الراحل الدكتور محمد مرسي، محل هجوم، وتجريح، وتشويه، ولا أقول نقد، حتى بلغ الأمر حد اختلاق الأكاذيب، والافتراءات التي لا ظل لها في الحقيقة، ومن ذلك، حُكم المرشد! وأخونة الدولة! ومحاباة الأهل والعشيرة! والرئيس الفرعون الذي استحوذ على كل السلطات! ولم يحاول أي من هؤلاء المهاجمين، الوقوف على الأسباب الحقيقة التي فرضت على الإخوان المسلمين التراجع عن وعدها الذي قطعته على نفسها، بل على العكس، فقد اعتبروا هذا التراجع، فرصة سانحة، لن تتكرر؛ لتسويق الإخوان، في صورة الخونة للوعود والعهود، والمتاجرين بالدين، والمتكالبين على السلطة. وعلى الجانب الآخر، لم تحرص قيادة الإخوان المسلمين، طوال السنوات الماضية، على توضيح الملابسات التي أحاطت بهذا التراجع، وما اضطرها إليه، كما لم تقم بالمراجعة الواجبة التي من شأنها أن تضع الأمور في نصابها الصحيح، أمام الرأي العام.
(2)
هذا العزوف (الإخواني) عن المراجعة، والامتناع عن الرد على استيضاحات مستحقة، والغياب التام للفريق الرئاسي المعاون للرئيس مرسي، باستثناء كاتب هذه السطور، فتح الباب على مصراعيه، أمام كل من يريد الكتابة عن "عام حكم الرئيس مرسي"، أو "تجربة الإخوان في الحكم"، كما يسميها آخرون، مستعيناً بما توفر له من مصادر، لم تكن في قلب الأحداث التي صنعت المشهد، وإنما كانت على تماس معها بصورة أو بأخرى، وكان من بين هؤلاء، الكاتب الصحفي الأستاذ سليم عزوز، رئيس تحرير صحيفة "الأحرار" المعارضة، في مصر، أحد المرشحين على قوائم الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية 2012، قبل استبعاده من القائمة، بقرار من الدكتور محمد البلتاجي، البرلماني البارز، الأمر الذي وضعه في حرج بالغ أمام عائلته، وأهل دائرته الانتخابية "جهينة" بصعيد مصر، حسب رواية الأستاذ عزوز، فلم ينس هذا الموقف للإخوان، ولا للدكتور البلتاجي، فصعَّد من هجومه عليهم، إذ لم يفوت حديثاً عن الإخوان، كياناً أو أشخاصاً، إلا هَمَز ولَمَز فيهم، حتى بدا الأمر، وكأنه يثأر لنفسه، ولا يسعى إلى كشف الحقيقة.
قد يكون هذا سلوكاً مفهوماً ومُبرراً في عالم السياسة، غير أنه مرفوض أخلاقياً لدى المصريين، إذا كان المهاجَمون في لحظة انكسار، كالتي يمر بها الإخوان المسلمون، وأهالي الشهداء، والمعتقلون، والمطاردون، والمنفيون، وذووهم، منذ انقلاب وزير الدفاع عبدالفتاح السيسي على رئيسه المنتخب، وعلى إرادة الشعب المصري التي عبر عنها بكل حرية، لأول مرة في تاريخه، وربما كان هذا هو السبب الرئيس، الذي أثار حفيظة بعض النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، فكالوا للأستاذ عزوز وضيوفه الإهانات والشتائم بغير حساب، الأمر الذي أزعجني، ودفعني إلى كتابة هذه السلسلة؛ لتحرير بعض النقاط التي يراها كلا الطرفين على غير الحقيقة، تلك الحقيقة التي على وشك أن تضيع بين التجني والتشنج.
(3)
من جانبه، لم يلتزم الأستاذ عزوز بالمعايير المهنية في عرض الموضوع، إذ من المتفق عليه في عالم الصحافة، أن الرأي والتحليل يأتيان بعد الخبر، وليس قبله، وأن مهمة الصحفي هي نقل الأحداث كما وقعت، وإن كان له من رأي فيما ينقله من أحداث، فمن حقه أن يسجله -بعد ذلك- في (مقال رأي) أو (تحليل)، وليس في صلب الخبر أو التحقيق. ومن المعلوم أيضا، أن التحقيق الصحفي يتطلب الالتزام بسمات معينة، من بينها: الواقعية، والدقة، والتجرد، والتوازن. ويجب أن يتمتع مُعد التحقيق الصحفي بمواصفات أساسية أهمها: الصبر، والإيمان بالموضوع المطروح، والجهد في التنقيب عن المعلومات.
وإني أشهد، من موقع المتابع المختص، أن الأستاذ عزوز تحلى بمواصفات مُعد التحقيق الصحفي جميعاً، غير أنه لم يلتزم بأي من سمات التحقيق الصحفي المذكورة، إلا من بعض الواقعية؛ التي كانت (تحصيل حاصل)، بحكم شيوع الأسماء المرتبطة بموضوع التحقيق، وكذلك الأحداث الرئيسة، أما الدقة والتجرد والتوازن، فلم أجد لها أثراً في هذا (التحقيق)، بل حل محلها السخرية، والتوبيخ، والازدراء أحياناً، وكل هذه ممنوعات في (التحقيق الصحفي) تحديداً!.
وكعلامة مرجعية، لمن شاء العودة إلى المصادر، فقد نشر الأستاذ عزوز موضوعه على جزأين: الجزء الأول، (تحقيق صحفي) جاء تحت عنوان "عام في القصر.. أسرار تُنشر لأول مرة"، أما الجزء الثاني، فكان حلقات مصورة، جاءت تحت عنوان (الشهادة)، استنطق فيها بعض الشخصيات المصرية، من موقع (الشهود) على الأحداث التي بدأت بانتفاضة يناير 2011، مروراً بعام حكم الرئيس مرسي، ثم الانقلاب عليه. وبإمعان النظر، نجد أن الأستاذ عزوز قدم -عند النشر- الرأي (الموضوع الأول) الذي اعتبره (تحقيقاً صحفياً)، على الخبر (الموضوع الثاني) وهو حلقات (الشهادة)!
(4)
للتدليل على عدم التزام الأستاذ عزوز بالمعايير المهنية عموماً، وسمات التحقيق الصحفي خصوصاً، أستعرض فيما هو آت، مقتطفات من الحلقة الأولى، من تحقيقه الصحفي، متبوعة بتعليقي عليها:
"وكان الرئيس في هذا ضحية برنامجه" فالرئيس مرسي في نظر الأستاذ عزوز، لم يكن ضحية تآمر داخلي إقليمي دولي، وإنما كان ضحية برنامجه الانتخابي "الذي نص على أن يقدم إنجازات ملموسة في بعض المسارات، خلال المئة يوم الأولى من حكمه، ولم يكن هذا ممكناً في الواقع، ولم يكن أكثر من "ورطة" ورط فيها من وضعوا البرنامج الرئيس، بحسن نية، ولا بأس فالطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الحسنة، وبدا من وضعوا البرنامج الرئاسي، كمن لا يعوون بشكل كامل، التحديات التي ستواجه تجربتهم، بل وتواجه الثورة نفسها".. لا دقة، لا تجرد، لا توازن!! فالمقطوع به، أن البرامج الانتخابية، في كل أنحاء العالم (رئاسية، برلمانية، نقابية، طلابية)، تتحدث عن المستهدف والمأمول، وليس عن الممكن والمتاح، لذا، فإن أول قياس لشعبية الرؤساء، بعد توليهم الحكم، في الدول الديموقراطية، دائماً ما يهبط بصورة حادة. إلا أن الشعوب هناك، وقبلها الجيوش، لا تفكر في هدم النظام المنتخب؛ لمجرد أن الرئيس لم ينجز ما وعد به في المئة يوم الأولى من حكمه، فهناك أساليب (شرعية) معتبرة، لإصلاح وتقويم أي انحراف أو خلل في منظومة الحكم الجديدة، حتى تنتهي دورتها الدستورية، ليس من بينها الإطاحة بها بواسطة الجيش.
"بيد أن الأكثر دهشة، أن هذا الشاب (م. ت) الذي تطوع من قبل بما لديه من معلومات عن "الأيام الأخيرة" للرئيس محمد مرسي، تهرَب -في البداية- عن الإدلاء بشهادته، عندما اتصلت به عند بدء المهمة، إذ تعلل في البداية أنه مريض" .. وصف (غير كريم) لموقف شاب، أدرك -لحسابات تخصه- أن الكلام في هذا التوقيت، ربما يكلفه حياته، أو يُلحِق به ضرراً جسيماً، على أقل تقدير. وكان على الأستاذ عزوز أن يتفهم ذلك، غير أنه -للأسف- لم يفعل!
"ولم يكن وحده من تهرب، وآثر كتم الشهادة، فمن هم كانوا أقرب منه في دائرة الحكم قد تهربوا مثله، ومنهم من اعتذر بدون تقديم مبررات للاعتذار". اتهام بالتهرب مجدداً، مضافاً إليه كتم الشهادة! وهنا يجب أن أسأل: هل من الواجب تقديم مبرر للاعتذار عن عدم الكلام؟! ألا يدخل الامتناع عن الكلام في باب (الحرية الشخصية)، وطبيعة الظروف التي تحيط بالشخص؟! لا سيما وأن المرحلة التي نحن بصدد الحديث عنها، لاتزال تلقي بظلالها، على هؤلاء الأشخاص!!
"فليس في نيتي أن أدير برنامج "الاتجاه المعاكس" [….] إن الهدف هو الحصول على المعلومة، أو "المادة الخام"، بعيداً عن التحليل والصخب!" .. لو كان هذا صحيحاً، لاستخدم الأستاذ عزوز لغة مختلفة، تمتاز بالموضوعية والحياد، وليس بالسخرية والتوبيخ، وإبداء الرأي القائم على الظن، وتقديمه على أنه الحقيقة المؤكدة!
"ولاشك، أن التهرب من الإدلاء بالشهادة، كاشف عن اختيار خاطئ لهذه الشخصيات المحيطة بالرئيس، وهي جزء من أزمة الحكم في هذا العام".. يعني اختيار هذه الشخصيات كان خاطئاً؛ لأنها امتنعت عن الحديث إلى الأستاذ عزوز! وليس لأي سبب موضوعي آخر!
"إن هناك خوفاً دائماً من اللجان الإلكترونية، التي استخدمتها قيادات الجماعة في ردع من يعلن وجهة نظر مختلفة، يمكن أن تمثل إدانة لإدارة الجماعة للمشهد، أو تثبت أن هناك أخطاء ارتكبت، وكانت البداية مبكراً، بالهجوم المباغت على الدكتور محمد محسوب [….] واستمرت هذه اللجان، كقوة ردع لصالح قيادات الجماعة للهجوم على الدكتور سيف الدين عبدالفتاح".. طبعاً يؤسفني جداً، أن تتعرض هاتان الشخصيتان الكبيرتان، إلى أي إهانة، أياً كان مصدرها، أما سؤالي فهو: هل يملك الأستاذ عزوز دليلاً دامغاً على ارتباط هذه اللجان الإلكترونية بقيادة الإخوان المسلمين، وأنها تعمل بتوجيه منها؟ بالقطع لا يملك هو أو غيره أي دليل على هذا الادعاء، وإنما هو (ظن) لا أكثر! ومن حق الأستاذ عزوز عليّ، ومن واجبي نحوه، تذكيره بأن (التحقيق الصحفي) يقوم على الحقائق، وليس على الظنون.
(5)
مهنياً، فإنه من غير الممكن، أن أستمر على هذا المنوال، في تفنيد ما يعتبره الأستاذ عزوز (تحقيقاً صحفياً)، إلا أني أكتفي بهذه القراءة الناقدة لهذا العدد المحدود من الاقتباسات التي يمكن للقارئ العزيز، العودة إليها في سياقها، وقد أصبح على دراية بكيفية القراءة الناقدة.
وإن كان لي من لوم أو عتاب، فلن أوجهه إلى الأستاذ عزوز الذي يمتهن الصحافة، ويجري خلف المواضيع التي تهم الناس، وتشغل الرأي العام، بغَض النظر عن طريقة عرضة لها. وإنما أوجه لومي وعتابي، بصورة مباشرة، إلى قيادة الإخوان المسلمين في الخارج، وإلى زملائي في الفريق الرئاسي، في الخارج أيضاً، الذين تأخروا كل هذه السنوات، عن تسجيل ما توفر لديهم من الحقيقة، مع الأخذ في الاعتبار، من جانب القارئ العزيز، أنه مهما بلغ عدد (الشهود الحقيقيين)، وكم الحقائق التي يمكنهم تدوينها، فستظل الحقيقة (ناقصة) إلى الأبد، لأن أهم أركانها، وهو الرئيس محمد مرسي، قد غاب إلى الأبد، في عملية اغتيال منظمة، طالبت غرف الأمم المتحدة الحقوقية بالتحقيق فيها.
في الحلقة القادمة -إن شاء الله- أستعرض أهم (الشهادات) التي نشرها الأستاذ عزوز، لا سيما تلك التي أثارت موجة السخط ضد أصحابها، على مواقع التواصل الاجتماعي، مفنداً، أو مؤكداً، أو مصححاً، ما جاء فيها.
(يُتبع)..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.