نشر مسعود أوزيل انتقاده لصمت العالم الإسلامي عما يحدث لمسلمي الإيغور وهو لا يعلم أن ما سيقوله سيتحوّل لحالة عامة على مواقع التواصل الاجتماعي. حالة تجلب الكثير من النقاش والجدال حول صعود وبروز الصين كقوة سياسية واقتصادية تفرض نفسها على الساحة الدولية. وفي هذه التدوينة نستعرض بعض الزوايا والنقاط الخاصة بالحالة الصينية في العقود الأخيرة وخاصة منذ صعود شي جين بينغ إلى سدة الحكم.
في البداية، يجب القول إنه لا يمكن معاملة واعتبار الصين ككتلة واحدة مصمتة، وإنما يجب توضيح أن النظام السياسي والاجتماعي الصيني هو الذي يتمتع بخصائص النظم الشمولية. وفيما يخص مسألة مسلمي الإيغور وما يتعرضون له من قمع، فمن غير الصحيح اختزال الوضع واعتباره "حرباً دينية بحتة". بالتأكيد جزء من الأمر كذلك، وهذا طبيعي ومتوقع عندما تتواجه أيديولوجيتان متناقضتان إلى هذا الحد. لكن سياسات الصين تجاه إقليم تركستان الشرقية ليست حملة صليبية. أعلم جيداً أن جملاً كهذه يمكن تصنيفها في خانات "الحكم السطحي" أو "التنظير البارد".
لذا دعونا نخوض قليلاً في السياسة الآسيوية والدولية كمحاولة لإثارة نقاش أعمق عن الفاعلين الجدد في العالم وأطماعهم وطموحاتهم. وهل وصلت الصين إلى مرحلة اعتبارها كياناً مخيفاً أم ليس بعد؟ ولماذا أخذت تصريحات مسعود أوزيل كل هذا الزخم الدولي؟ وهل في هذا الزخم فائدة أم لا؟ ولماذا يجب النظر لمسألة الإيغور من زاوية هونغ كونغ.
أولاً، يجب دائماً تذكر أن الصين تتمتع بميزتين لا ينافسها فيهما إلا عدد قليل من الدول يعد على أصابع اليد الواحدة وهما؛ المساحة الجغرافية الشاسعة وعدد السكان الهائل، وهذه الأخيرة ميزة يمكن أن تنقلب لقنبلة نووية لو لم تدار بشكل رشيد.
مشروع الجسد الواحد
يمتلك الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ مشروعاً طموحاً جداً، صعب التحقق، لترسيخ الصين داخلياً وخارجياً على درجة أعلى في سلم التطور العالمي. داخلياً يقوم مشروعه على فكرة وتصور دولة "الجسد الواحد"، ويعني ذلك أن تتحرك الصين ككتلة شعبية هائلة تمتلك أيديولوجية موحدة، فتتحرك الصين كمواطن صيني عملاق له قرابة مليار و400 مليون جسد وعقل. يحكمهم ويوضع في الدرجات العليا منهم أعضاء الحزب الشيوعي في البلاد، وهم حوالي 90.5 مليون صيني.
خارجياً وعلى مستوى السياسة الدولية، تحاول الصين تصدير نفسها باعتبارها قدوة سياسية حميدة وقوة اقتصادية مجهزة بخطة وخط زمني واضح لإزاحة الولايات المتحدة الأمريكية من عرض الانفراد بالهيمنة على العالم. رغم أن الصين في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحالي كانت توضع في مرتبة قريبة من أوروبا، لكنها لا تقترب من أمريكا؛ لا اقتصادياً ولا عسكرياً، رغم كل المعلومات الشعبية المنتشرة عنها وهي في نسبة كبيرة منها خاطئة.
ثانياً، يواجه شي جين بينغ عدة عقبات في طريق تحقيق هذا الحلم الضخم، أولها وليس آخرها وضع الجيش الصيني المتضخم والمترهل والمصاب بداء البيروقراطية وانعدام التنسيق. فنظام القيادة غير فعال وغير محكم، بوجود قيادة عسكرية مزدوجة؛ قيادة حكومية وحزبية تشكل لجنة مكونة من 11 شخصاً يترأسها شي. مع سيطرة فعلية للقوات البرية على أفرع الجيش الأخرى نظراً لكون العقيدة العسكرية الصينية، حتى أقل من 10 سنين مضت، تضع القوات البرية على رأس الجيش كاملاً وذلك بسبب مساحة البلد الشاسعة. وأخيراً وليس آخراً التضخم الهيكلي فعدد أفراد الجيش هو 2.3 مليون جندي أغلبهم من جنود القوات البرية بلا مراعاة للأسلحة وأفرع الجيش الأخرى.
بجانب معضلة التكلس وسوء التوزيع هناك مشكلات أقل مركزية إلا أنها مهمة ومحورية مثل كون البحرية الصينية مترهلة جداً، وأن آلة الصين العسكرية يابانية العقيدة، أي أنها لا تتدخل في شؤون العالم وتبقى داخل حدودها، كما أن الأفرع الخاصة مثل قوات مكافحة الإرهاب غير حاسمة وفعالة.
لذا كان أحد أهم أجزاء مشروع الرئيس الصيني هو إعادة هيكلة هذا الديناصور شديد الضخامة وشديد البطء. وأعلن تشي في 2013، وبدأ في 2015، مشروع إعادة هيكلة الجيش سائراً على نفس مسار الأمريكيين في إعادة هيكلة جيشهم بنهاية الحرب الباردة عن طريق قانون "جولد ووتر- نيكولز" الشهير Goldwater–Nichols Act
أخطار داخلية
لمواجهة طموحات قيادات الحزب الشيوعي والمعارضين لخططه، أطلق تشي حملة شهيرة عرفت عالمياً بـ"حملة مكافحة الفساد"، وأطلقها بعد توليه الرئاسة مباشرة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012.
حملات مكافحة الفساد ليست بالأمر الجديد، وهي تقنية ظريفة استخدمها حكام الصين على مر تاريخها المغرق في القدم لتحقيق أجندة سياسية معينة أو تحجيم المعارضة بشكل كامل. على سبيل المثال، حملة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ عامي 1952 و1953، وللمفارقة فهي كانت حملات مكافحة فساد فعلية أو مكافحة رأسمالية إن شئنا الدقة، لكن ماو تسي كان مولياً اهتماماً أكبر للثورة الثقافية، وحملته كانت حملة تطهير معارضين حقيقية وطويلة ومليئة بالإعدامات امتدت إلى نهاية حكمه منتصف السبعينيات.
من هنا تتم مقاربة حملة شي بثورة تسي تونغ، وبجانب المقارنة الدعائية من قبل شي والحزب، فالمقاربة الغربية أساسها إن حملة شي شديدة الاتساع وحولت الصين لدولة "الأخ الأكبر الذي يراقب الجميع" بمساعدة تقدم التقنية الصينية في مجال الـ AI أي الذكاء الاصطناعي. والآن تمتلك الصين أكبر نظام مراقبة في العالم كماً وكيفاً.
لكن الأهم من هذا هو أن الحملة أدارت جهاز الدولة البيروقراطي بالكامل لصالح قبضة شي، وأنتجت في بدايتها "لجنة الإشراف الوطنية"، أعلى سلطة مكافحة فساد في الصين، وهي سلطة لا تخضع لقانون أو محكمة أو أي سلطة أعلى، بل وتجب المحكمة الصينية العليا نفسها. وهذه اللجنة تُسأل فقط أمام قيادات الحزب الشيوعي العليا، وعين شي عليها يانغ شياودو، أحد أذرعه المقربة.
وهذه اللجنة هي سلاح شي الأول في حروبه الداخلية وهي التي تعطيه النفوذ الواسع على الطبقات الحاكمة والنخبوية الصينية.
لماذا تقمع الصين مسلمي الإيغور؟
المحور الثالث والذي يتقاطع مع مسألة الإيغور المسلمين هو "أطراف الصين"، الصداع الجيو-سياسي المزمن للنظام الصيني.
يعتبر عرق الهان هو العرق الأساسي الذي ينحدر منه الصينيين، ويحيط بأراضي الصين الأساسية 4 ولايات عازلة جغرافياً وهي: (التبت – منغوليا الداخلية – منشوريا – شينجيانغ/سنجان)، والأخيرة هي ما نعرفه باسم بتركستان الشرقية موطن الإيغور. وعلى الساحل الجنوبي الصيني هسنجد ماكاو وهونغ كونغ، الجيوب الأوروبية السابقة.
على مر التاريخ الصيني الحديث سببت هذه الأطراف الستة صداعاً لا متناهياً للأنظمة الصينية المتتالية، ثورات في التبت، سعي انفصالي مستمر لتركستان بنكهتها الإسلامية كدين للأغلبية هناك، ومحاولات مستمرة من هونغ كونغ للخروج من تحت العباءة الصينية، وإقليم سهل للاستيلاء عليه حال حدوث حرب كبرى كمنشوريا، استولت اليابان على معظمه بالفعل في الحرب العالمية الثانية قبل أن تسترجعه بكين مرة أخرى.
وبينما منشوريا ومنغوليا الداخلية وماكاو مستقرين حالياً، ويمكن إدارة التبت دوماً، سنرى أن الصداع الذي يضرب الرأس الصينية مؤخراً قادم من هونغ كونغ، وهو مستمر منذ حوالي 3 سنين، ثم شاركتها تركستان الشرقية.
والصورة الحالية لهونغ كونغ هي مظاهرات مستمرة، وهذه صورة تضر بإطار "دولة واحدة ونظامان" الحاكم لعلاقة هونغ كونغ مع الصين إذ تعتبر هونغ كونغ منطقة إدارية خاصة تتمتع بحكم ذاتي في غالب الأمور داخل الدولة الصينية، وهذه المظاهرات تبين الصين الراغبة في التحول لقوة مهيمنة وقطب ثاني سياسي حميد، على إنها دولة ستالينية، خاصة مع مكانة هونغ كونغ المالية في آسيا والعالم مما جعل أمر مظاهراتها شأناً إعلامياً عالمياً.
صداع هونغ كونغ، الذي تحاول واشنطن استغلاله أحسن استغلال لتحجيم الصين وتستخدم أطواقاً أخرى معه كبحر الصين الجنوبي مثلاً والنفوذ الناعم في أوروبا وأخيراً تعريفات ترامب التجارية المستمرة، هذا الصداع له عدة أضرار بالغة؛ أولاً يقوم بتصدير صورة الفشل الصيني والدولة الفاشية، وثانياً يدفع النظام الصيني لاستخدام الجيش للتدخل وضبط الأمور في هونغ كونغ، وهو قطعاً ما لا ترغب به بكين وتبقيه كحل أخير في حال ساءت الأمور وتدهورت.
ويتوقع مركز ستراتفور استمرار المظاهرات في عام 2020 واستمرار صمت بكين عليها ومحاولة الالتفاف على الأمريكيين ومعالجة الوضع بالدبلوماسية وإجراءات فعالة.
لكن الضرر الأكبر الذي من الممكن أن يسببه متظاهرو هونغ كونغ هو إعطاء نموذج ملهم لمدن شرق الصين لمقاومة أي أضرار ناتجة عن مشروع الحزام وطريق الحرير. والمشروع، رغم المبالغات الدعائية الصينية الكبرى حوله هو جزء أساسي من محاولة الرئيس الصيني فرض هيمنة آسيوية، ورغم أن جزء المشروع الأهم إعلامياً "الوصول لأوروبا" يبدو صعب التحقق جداً، إلا أن الغرض الأساسي من المشروع هو التوسع الصيني في آسيا، لذا لو أن كل مدينة وكل أقلية وكل عرق سيثور فإن النظام الصيني لن يجد وقتاً وبالاً لإدارة مشاريعه التوسعية وطموحاته الخارجية.
بالنسبة لتركستان الشرقية، ذات التجارب الانفصالية الناجحة حتى وقت قريب، فآخر ما ترغب فيه الصين، والتي تحاول منذ عهد ماو تغيير التركيبة الديمغرافية للإقليم، تغيرت بالفعل وأصبح قرابة 50% من الإقليم ينتمون لعرق الهان حالياً، آخر ما ترغبه هو تحول الإيغور لحالة عالمية تجذب الانتباه والتعاطف والدعم على غرار هونغ كونغ. وفي هذا الإطار يواجه الرئيس وحزبه مشكلتين أساسيتين بالفعل حالياً وهما؛ مظاهرات هونغ كونغ الآخذة في الاتساع، والتأثير الدعائي الآخذ في الاضمحلال لحملة مكافحة الفساد.
هنا يدخل مسعود أوزيل على الخط، والذي قام بدون دراية منه على الأغلب وبرد فعل بشري طبيعي بناءً على مشاعره وأصوله التركية، بنقل قضية الإيغور لدائرة الضوء الشعبية. وهنا يجب القول أن قضية الإيغور ومنذ فترة لا بأس بها وهي واقعة في دائرة ضوء الصحافة العالمية وتحديداً البريطانية والأمريكية الأكثر تأثيراً في أوروبا والعالم، لكن تسليط الصحافة الضوء على ملف ما شيء، وعندما يتحدث رمز مشهور شيء آخر.
أوزيل لاعب من الصف الأول من حيث الشهرة، ومع عشرات الملايين من المتابعين على كل حساباته الاجتماعية عبر المنصات المختلفة؛ وُضعت القضية في دائرة اهتمامات الناس، عرب ومسلمين وأجانب، لأنك من الممكن أن تنشر 60 تحقيقاً طويلاً بها من التفاصيل الكارثية ما بها، ولا تكون مجتمعة بتأثير تغريدة واحدة من نجم شعبي في أي مجال.
وبهذه التصريحات أصبحت مشاكل شي والنظام الصيني 3 مشاكل، بإضافة عامل التضامن مع الإيغور من الجميع، بدءاً من أول تغيير صورة الحساب الشخصي بصمت للصورة الداعمة للإيغور وحتى الكلام والنقاش المستمر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا جزء حقيقي من المسألة لا يمكن معاملته باستخفاف.
صحيح أننا لن نستيقظ صباحاً، فنقرأ أنباء اختفاء الصين من العالم تحت ضغط التضامن مع الإيغور المسلمين، لكن لأن التضامن جزء فعال في تحويل القضية لتريند عالمي، وأي تريند عالمي ينتقد الصين داخلياً يعتبر سلاحاً موجهاً لها بصفتها كياناً شديد الضخامة يعتبر سيطرته على الروايات الصادرة منه وعنه أحد أهم دفاعاته وميزاته، ولفهم هذا الوضع لا تحتاج لأكثر من مراقبة المهزلة الصينية السنوية من تتبع كل شاردة وواردة تكتب أو تنشر أو يُتحدث بها عن أحداث مجزرة تيانانمن الغنية عن التعريف.
الصين، حتى
الآن، لديها مشاكل عميقة جداً في نظامها السياسي لا يمكن حتى إصلاحها في عقد من
الزمان، وهي ببساطة لا تمتلك نفس الباع والرفاهية الأمريكية في ترك مجتمع حر مفتوح
على مصراعيه، لأن الولايات المتحدة تتمتع بشبكة مؤسسات شديدة التعقيد والقوة لا
يمكن لطبقة فيها أن تستأثر بالحكم أبداً وبالتالي تعالج ثغرات المجتمعات المفتوحة.
بينما لا تمتلك بكين تلك الشبكة وإنما نظام حكم رأسياً كما أُنزل. وبجانب إن النمو
الاقتصادي المتباطئ، مقارنة ببلد بهذا الحجم، وليس كما يروج له أيضاً، فإن الصين
أمامها مشوار طويل جداً لتصبح تهديداً جدياً لواشنطن.
والأمريكيون يعلمون ذلك تمام العلم، لكن خلق
عدو حالي من سيناريو مستقبلي على المدى الطويل وتحجيمه من البداية هي صناعة
أمريكية بارعة لها أرباحها ومكاسبها السياسية والاقتصادية وكذا في أوراق النفوذ،
وفي النهاية ما يهمنا كأفراد عاديين هو أن لا نتوقف أبداً عن تحريك الأمور
واستغلال ما نمتلكه من حناجر، هذا طريق جماعي واجب في أي قضية وأي تضامن. أما
الطرق الفردية فكل فيها على قدر استطاعته وإمكاناته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.