في عام 2017، وصفت مجلة ديلي تليغراف البريطانية السير ألفريد هيتشكوك مخرج الأفلام البريطاني الراحل بأنه أعظم مخرج خرج من هذه الجزر، فقد كان الرجل يعتمد على الإثارة والتشويق كما لم يفعلها أحد قبله، وبعد أكثر من ربع قرن على رحيل الرجل لم يتخيل أحد أن المملكة المتحدة ستكون على موعد مع سيناريو هيتشكوكي أكثر إثارة ولا علاقة له بدور العروض السينمائية، ولكنه داخل 10 داونينغ ستريت مقر رئاسة الحكومة البريطانية.
أعيش حالياً في منطقة غرب لندن ولا أعلم حقيقة هل من حسن حظي أم من سوء الحظ أن أسكن في نفس الدائرة الانتخابية لرئيس الحكومة الحالي بوريس جونسون والذي تنافس فيها مع مرشح مسلم من أصول إيرانية وفاز بمقعد هذه الدائرة متفوقاً عليه بسبعة آلاف صوت، واللافت للنظر أن نسبة السكان المسلمين ممن لهم حق التصويت في هذه الدائرة أكثر من خمسة آلاف.
كمهاجر في هذه البلد حصل على حق اللجوء السياسي كنت سأشعر بالحرج الشديد والحيرة إلى من يذهب صوتي ما بين المحافظين والعمال في حال كان لي الحق في الانتخاب، فبشكل شخصي ساعدني السيد جونسون مباشرة في دخول طفلي الصغير إلى المدرسة وتعامل باهتمام شديد مع شكواي التي أرسلتها إلى مكتبه، ولكنه في نفس الوقت هو صاحب الخطاب العنصري ضد المهاجرين واللاجئين والمسلمين منهم خاصة، وعلى النقيض تماماً من ذلك يقف حزب العمال فقد كان لرئيسه خطاب مناصر لقضايا عالمنا العربي والإسلامي ومدافع عن قيم طالما آمنت بها، ولكني علمت أن حيرتي ليست في محلها عندما فوجئت بابني الذي لم يكمل عامه العاشر بعد يناقشني في نتائج الانتخابات الهيتشكوكية، وهو يقول لي بثقة بالغة نتاج نقاشات مع زملائه في الصف الخامس في مدرسة الحي أن نتيجة الانتخابات لا علاقة لها بكل ما أفكر فيه ولكن كوربين خسر لأنه لم يوضح موقفه من الخروج من الاتحاد الأوروبي ولم يبد احتراماً لرأي الشعب البريطاني حول البريكست في استفتاء 2016، على عكس جونسون الذي قال للناس هيا بنا لننه أمر البريكست وهو ما أراده الناخبون في هذه الانتخابات، عجبت كيف لطفل صغير أن يصل مع رفاقه إلى هذه النتيجة الواضحة التي يبدو أن كوربين ورفاقه من الساسة وقادة حزب العمال لم يصلوا إليها إلا مع وقع خسارتهم الفادحة والتي تعد الأكبر منذ عام 1935.
انتخابات هيتشكوك بنتائجها المثيرة والمفاجئة ستمتد آثارها بشكل متصاعد على عدد من الملفات الهامة للمملكة المتحدة أولها وأهمها هو الأثر المباشر على بوريس جونسون ذلك الرجل الذي يلقبونه هنا بترامب بريطانيا للتشابه في الشكل والتصرفات مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جونسون الذي جاء دون إرادة شعبية وإنما عن طريق انتخابات داخلية في حزب المحافظين بعد الإطاحة بتيريزا ماي رئيسة الحكومة السابقة والتي لم تكن ضحية جونسون الأولى أصبح الآن زعيماً منتخباً بإرادة شعبية وبأغلبية لم يحصل عليها حزب المحافظين منذ مارغريت تاتشر عام 1987، بعد هذه الانتخابات أصبح جونسون خصماً مخيفاً لا يستهان به من قبل خصومه فقد تسبب جونسون في الإطاحة بتيريزا ماي ومن قبلها ديفيد كاميرون بعد أن قاد حملة الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016، وها هو يطيح الآن بخصم سياسي آخر وهو جيرمي كوربين زعيم حزب العمال الذي أعلن عدم قيادة الحزب في أي انتخابات قادمة، الدعم الخارجي أيضا الذي وجده جونسون منذ إعلان النتائج يبشر بسياسات خارجية قوية للمملكة المتحدة حتى بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
ثاني هذه الملفات ما يتعلق بالبريكست فبعد أن أصبح حلم الخروج من الاتحاد الأوروبي بعيد المنال على مدار ثلاث سنوات ها هي بريطانيا لم يعد يفصلها عن الخروج رسمياً إلا أقل من شهر ونصف الشهر، وفق ما هو معلن أن المهلة الأوروبية ستنتهي في 31 من شهر يناير/كانون الثاني بداية العام الجديد، الذي ربما يتغير بعد هذه الانتخابات هو أن يسلك جونسون مسلكاً آخر غير ما أعلنه قبل ذلك بأنه على استعداد للخروج دون اتفاق، جوسنون سيسعى للتوصل لاتفاق اقتصادي حقيقي للخروج لا يشعر معه الناخب البريطاني الذي أعطى ثقته للمحافظين بالخوف على مستقبل البلاد ويضمن في ذات الوقت التزام جونسون بوعوده في إنجاز البريكست، ثم تبدأ بريطانيا مرحلة انتقالية وجدولاً زمنياً للخروج ينتهي مع نهاية العام القادم وسيكون أمام بريطانيا ثلاثة احتمالات:
أولاً: إن هذا الجدول الزمني لا يعمل بشكل جيد ولا يستطيع بوريس جونسون أن يفي بالتزامات الفترة الانتقالية على أي حال، مما يؤدي إلى عدم وجود صفقة تجارية.
ثانياً: أن تكون المفاوضات قادرة على تحقيق شيء ما بحلول نهاية عام 2020، وذلك لأن نتائج الانتخابات وأغلبية المحافظين في البرلمان قد أعطت الأوروبيين والبريطانيين ما أطلق عليه ميشيل بارنييه "الحد الأدنى الحيوي" للاتفاق وربما استطاعوا التوصل إلى نوع من الاتفاق المؤقت.
ثالثاً: بوريس جونسون يعود مرة أخرى إلى سيناريو الخروج دون صفقة وهو الخيار الأبعد لأنه ربما لا يحتاج إليه في ظل الأغلبية البرلمانية الكبيرة والمريحة لحزبه.
ثالث الملفات التي ستتأثر مباشرة بنتائج الانتخابات هو ما يتعلق بدعوات انفصال إسكتلندا عن المملكة المتحدة فهيتشكوك كان حاضراً بقوة في عدد المقاعد التي حصل عليها الحزب القومي الإسكتلندي وزعيمته نيكولا ستورجن، فقد حصل على 50 مقعداً من إجمالي 59 مقعداً لإسكتلندا، وهو رقم يجعله في المرتبة الثالثة داخل البرلمان ويعيد الزخم مرة أخرى من أجل المطالبة باستفتاء لانفصال إستكلندا بعد المحاولة الأخيرة التي فشلت في عام 2014، عندما صوت 55% من الإسكتلنديين للبقاء في بريطانيا، ولكن مع استفتاء 2016 صوتت إسكتلندا لبقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، بعد هذه الانتخابات ستتعالى الأصوات المطالبة بانفصال إسكتلندا في أقرب فرصة لأن انتظارها إلى ما بعد البريكست سيصعب من المسألة برمتها خاصة بأن هناك تصويتاً جرى في البرلمان الإسكتلندي عام 2017 لصالح مقترح ستورجن بالدعوة لاستفتاء جديد على انفصال إسكتلندا.
رابع القضايا الساخنة التي ستتأثر بشكل مباشر جراء فوز المحافظين بهذه الأغلبية ومنح الشعب البريطاني الثقة لبوريس جونسون هي الجالية العربية والمسلمة في بريطانيا، والسبب بالتأكيد يتعلق بشخص بوريس جونسون وموقفه من الإسلام والمسلمين بشكل عام ومن المهاجرين بشكل خاص ويكفي أن نشير إلى أن تقريراً نشرته مؤسسة تيل ماما المعنية برصد ظاهرة رهاب الإسلام في سبتمبر/أيلول من العام الجاري ذكرت فيه أن مقالاً كتبه رئيس الحكومة الحالية بوريس جونسون في أغسطس/آب من عام 2018 هاجم فيه المسلمات ووصف من يرتدين النقاب بصناديق البريد ولصوص البنوك قد ساهم في ارتفاع نسبة الإسلاموفوبيا بنسبة 375%، بريطانيا تعيش بها جالية إسلامية كبيرة جاوزت الثلاثة ملايين نسمة ولكنهم يعيشون فترة من أسوأ الفترات وأخطرها منذ صعود الخطاب اليميني الشعبوي مع ظهور بوريس جونسون على الساحة السياسية في بريطانيا، وعلى الرغم من وصول مسلم إلى منصب عمدة لندن وهو صادق خان ووصول مسلم آخر إلى منصب وزير الداخلية السابق وهو ساجد جاويد إلا أن عام 2018 كان الأسوا في حوادث استهداف المسلمين وهو ما استمر في العام الحالي أيضاً وتحديداً بعد حادثة نيوزيلاندا الإرهابية والتي راح ضحيتها 22 مسلماً بعد استهدافهم داخل أحد المساجد، حيث ارتفعت نسبة حوادث كراهية المسلمين واستهدافهم إلى نسبة جاوزت 509% والأكثر من ذلك أن حكومة تريزا ماي شابقا رفضت قانوناً دعا إليه نواب حزب العمال لتجريم الإسلاموفوبيا واتهام من يمارسها بالعنصرية ولكن للأسف تم رفض هذا القانون وبشدة.
ربما قال قائل إنني أقوم بالتهويل والمبالغة حزناً على خسارة جيرمي كوربين، ولكني حزين بالفعل على خسارة عمالي آخر وهو صديقي ساندي مارتن عضو مجلس العموم عن حزب العمال في مدينة أبسويتش والذي خسر مقعده أمام منافسه من حزب المحافظين، عشت في هذه المدينة الصغيرة ما يقارب العامين وعرفت ساندي مارتن عن قرب فهو مناصر لقضايا اللاجئين والمهاجرين ولا يتأخر في دعمهم، عندما ذهبت إلى مكتبه وأنا طالب للجوء أشكو له تأخر وزارة الداخلية في الرد علي، ما كان منه إلا أن قام باستجواب وزير الداخلية داخل مجلس العموم وبعدها بأسبوعين حصلت على حق اللجوء السياسي، ساندي كان قريباً من المسلمين ومن الجاليات التي تعتبر نفسها أقليات أو إن شئت فقل قوامها الأساسي من اللاجئين والمهاجرين، عندما خسر ساندي تسرب إلي شعور بالقلق والخوف على ما هو آت في قابل الأيام، هاتفت صديقاً بريطانياً يعمل في مؤسسة لدعم اللاجئين متسائلاً عما يدور في خلده فإذا به في حالة من القلق على مصير قضية اللاجئين والمهاجرين برمتها.
المسلمون في خطر مع جونسون، هذا كان ملخصاً لبيان أصدره المجلس الإسلامي وهو الهيئة الأعلى تمثيلاً للمسلمين في بريطانيا في شكل رسالة لرئيس الحكومة الجديد ذكر فيها أن المسلمين في بريطانيا باتوا يشعرون بالقلق على أنفسهم وحياتهم بعد نتائج الانتخابات الأخيرة، وطالب المجلس الإسلامي باسم مسلمي بريطانيا أن يصدر جونسون بياناً أو تصريحات تهدئ من قلق المسلمين وتطمئنهم على مستقبلهم في البلاد، ولكن الأزمة الأكبر ربما تأتي إذا ما قرر جونسون ممارسة ضغوط على المنظمات الإسلامية التي تعمل داخل بريطانيا بشكل أو بآخر، وهذا ربما كان الهاجس الأكبر لدى الكثيرين ممن تحدثت إليهم هذا الأسبوع، وما أراه أن جالية مليونية تستطيع أن تؤثر بالفعل في مجتمع متعدد الثقافات والأعراق فقط إذا ما حاولت الاتحاد على قواعد ملزمة للعمل معاً، لأنه وببساطة ربما يعاود جونسون الكرة قريباً ويعود إلى سيرته الأولى في الهجوم على المسلمين بشكل رسمي.
هي انتخابات هيتشكوك إذاً وبامتياز لم تخل من الإثارة ولم تغب عنها المفاجآت ويبدو أن المملكة المتحدة على موعد مع سنوات قادمة يسيطر فيها المحافظون على المشهد ويختفي فيها جناح حزب العمال وزعيمه كوربين، وربما يظهر الجناح الآخر الذي ينتمي لتوني بلير وهو جناح لا يعارض إسرائيل ولا يختلف معها وهذا ما لم يفعله كوربين الذي كان من أحد أهم أسباب اهتزاز صورته تلك الحملة التي شنها ضد اللوبي الإسرائيلي في بريطانيا واتهامه بمعاداة السامية.
هيتشكوك لم يكن حاضراً في هذه الانتخابات فقط وإنما في طريقة استقبال بريطانيا لي فلم أعد أرى كلمات تصف ما أعيشه حالياً إلا تلك التي قرأتها في موقع ساخر تعليقاً على نتائج الانتخابات البريطانية "لا أعلم إن كانت المشكلة فيَّ أنا، وبأثر الفراشة أتسبب بخراب أيّ بلدٍ أذهب إليه، أو تسريع انهيارٍ بدَأ قبل وصولي إليها بعقود كما الحال في بريطانيا، لكن أنصحكم بتفادي هذه الدولة المشتتة والمتفككة، التي لم تحدِّد بعد إن كانت بلداً أوروبياً أو ولاية أمريكية. مهما ساءت الظروف في بلادكم، ابقوا فيها معزَّزين مكرَّمين مبهدلين أفضل لكم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.