ليس لأي أمة أن تنهض وتلتحق بمصافّ الدول المتقدمة والمتطورة، سواء على الصعيد التكنولوجي أو الصناعي دون المراهنة والاعتماد على منظومتها التعليمية. ولنا في نهضة ألمانيا في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وسنغافورة غداة خروجها من وطأة الاستعمار مثلٌ ودليل. فقد تصدَّر التعليم قائمة أولويات هذين البلدين، ونال الجانب الأكبر من اهتمام سياسييهما ومثقفيهما، حتى أصبحا على ما هما عليه اليوم من رقي وتقدم على جميع الأصعدة.
ولكن بالرجوع إلى واقعنا التعليمي في تونس، خاصة ما بعد ثورة 2011، نجد أننا في تراجع ملحوظ ومستمر. تحتل تونس مراتب متأخرة في العديد من التصنيفات العالمية المتعلقة بمستوى وجودة التعليم بمختلف مراحله.
فلو أخذنا على سبيل المثال ترتيب الجامعات التونسية وفق المؤشر العالمي لترتيب أفضل الجامعات لعام 2019 الذي أصدرته مجلة "تايمز هاير إديوكيشن" البريطانية، سنجد أن ثلاث جامعات تونسية فقط جاءت ضمن قائمة أفضل 1250 جامعة في العالم، وهي جامعات صفاقس والمنار والمنستير، حيث حلّت جامعة صفاقس في فئة 801-1000 في الترتيب العالمي، ثم جامعتا المنار والمنستير معاً في فئة "+1000" ضمن هذا المؤشر العالمي، وهي نتائج متدنية جداً، حتى بالمقارنة مع نتائج الجامعات العربية الأخرى. نفس النتائج الكارثية كانت من نصيب تونس أيضاً، ضمن تصنيف "بيزا" (PISA) للأنظمة التربوية، حيث تحصلت على المرتبة 65 من جملة 70 دولة رصدها التصنيف.
وتعكس هذه النتائج خللاً واضحاً وعِللاً أصابت جميع العناصر المتدخلة في العملية التربوية، وتكمن أسباب هذا الخلل في وجود مشاكل جوهرية في علاقة البنية التحتية والموارد البشرية والتأثيرات الاجتماعية. وسنتناول كل واحدة منها على حدة في قادم السطور.
رغم أن الفضاء المدرسي يُعتبر من مكونات التعليم، وذلك لما له من علاقة عضوية بالشروط الضرورية لإنجاح العملية التعليمية/التعلُّمية، إلا أن الفضاء المدرسي في تونس يتسم بالاهتراء وعجز بنيته التحتية، وقدم وسائله التربوية، وغياب وسائل ومعدات التعليم اللازمة، وهو ما يشكل عائقاً أساسياً للارتقاء بالمنظومة التعليمية برمتها.
ويمكن اعتبار هذا الاهتراء على مستوى البنية التحتية نتيجة طبيعية وحتمية إذا ما ألقينا نظرة على الميزانية المخصصة لوزارة التربية التونسية. على سبيل المثال، في سنة 2018، قُدرت ميزانية نفقات التنمية بـ4.26% من إجمالي ميزانية الوزارة، أي 210 ملايين دينار، في حين أن باقي الميزانية أي 95.74% من مجمل الميزانية وهو ما يقدر بـ4715.533 مليون دينار هي نفقات التصرف. فكيف لمثل هذه الميزانية التي تعكس خيارات الساسة والتوجهات العامة للدولة أن تُصلح بنية تحتية تآكلت واهترأت منذ عقود؟ وكيف يمكن لسياسات التقشف هذه أن تصلح ما أفسده الدهر؟
يعاني العنصر البشري هو أيضاً من مشاكل عديدة ومتنوعة، لعل أبرزها فقدان التأطير والتوجيه، في ظل غياب منظومة وطنية مركزية تُعنى بالتكوين الأساسي للمستجدين في مجال التعليم أو التكوين والتطوير المستمر لمزاولي المهنة. وهو ما انعكس سلباً على مردود المدرسين وأثر في حرفيتهم واحترافيتهم من حيث الأداء.
يضاف إلى مشكلة التطوير مشكلة أخرى أشد تعقيداً، ألا وهي عملية الانتداب في صفوف المدرسين والآليات المعتمدة في هذا الإطار. فعملية انتداب المدرسين لم تعد تخضع للتخطيط والبرمجة المسبقة، بل صارت عبارة عن قرارات ارتجالية مرتبطة في غالب الأحيان بالحراك الاجتماعي المُطالب بالتشغيل، فعوض أن يكون سبيلاً لتطوير المنظومة التربوية وتعزيز العنصر البشري بمدرسين أكفاء حسب معايير مضبوطة أصبح الانتداب في قطاع التعليم أداة تستعملها الدولة لترضية المحتجين من المعطلين عن العمل في نطاق حسابات سياسية ضيقة الأفق.
من جهة أخرى، أصبح اللجوء إلى المدرسين العرضيين عديمي الخبرة والكفاءة وسيلة أخرى لسد الشغورات الدائمة أو الوقتية في صفوف رجال التعليم، والتي تقدر بالآلاف سنوياً. وهو ما زاد في تعميق أزمة هذا القطاع من حيث تراجع النجاعة والمردودية.
عدم استقرار الإطار التربوي أيضاً يمثل إشكالية نتج عنها تفاوت على مستوى النتائج بين الجهات. فالعمل في المناطق الداخلية الريفية غير الحضرية لا يستهوي ذوي الخبرة من المدرسين، وبذلك تكون هذه المناطق قبلة للمستجدين أو للعرضيين، وهو ما يؤدي إلى تراجع النتائج في أغلب الأحيان.
إن العملية التعليمية في مفهومها البسيط هي عملية تفاعلية بين المدرس والتلميذ داخل فضاء مدرسي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال توقع نتائج إيجابية ما دمنا أغفلنا الجانب المادي والمعنوي لمن هو حجر الأساس في هذه العملية، ألا وهو المدرس.
معدل الأجر السنوي للمدرس التونسي لا يتجاوز الـ5000 دولار؛ في حين أنه يتجاوز الـ9000 دولار في رومانيا، التي تعتبر من أفقر الدول الأوروبية، بينما يبلغ هذا المعدل 29000 دولار بالنسبة للمدرس المبتدئ في فرنسا، و57000 دولار في ألمانيا.
رغم نبل الرسالة التربوية والتعليمية يبقى الجانب المادي عاملاً محفزاً على الإبداع وتقديم الإضافة، لكن كيف يمكن للمدرس أن يبدع فعلاً ويتفنن في تبليغ رسالته وهو يتقاضى أجراً لا يعدو أن يكون منحة للبقاء على قيد الحياة وسط أزمة اقتصادية خانقة؟ وكيف لدولة تنشد الارتقاء بمنظومتها التعليمية ومدرسوها تحت خط الفقر؟
3- التأثيرات الاجتماعية
لقد تغيرت نظرة المجتمع التونسي للتعليم بصفة ملحوظة، فبعد أن كان التعليم يُعد "مصعداً اجتماعياً" للطبقات المتوسطة والسفلى في المجتمع، أصبح اليوم مجرد وسيلة للحصول على شهادة لا فائدة منها. ويعود ذلك إلى حالة اليأس والإحباط التي يعيشها المجتمع التونسي من جراء استفحال الفساد فيه وانتشار ظاهرة الرشوة والمحسوبية. حيث لم تعُد الكفاءة والشهادة العلمية المقياس الوحيد للظفَر بموطن عمل أو لتحقيق الارتقاء الاجتماعي، بل أصبحت الرشوة الطريق الأقصر للحصول على منصب أو وظيفة، أو حتى لكسب الاحترام والتقدير وإن غاب شرط الكفاءة والشهادة.
ومن المظاهر السلبية الأخرى التي برزت في المجتمع التونسي وأسهمت في انحدار مستوى التعليم وتراجعه انتشار عقلية الربح أو الثراء السريع دون بذل أي مجهود، والتي شجعها الإعلام، خاصة برامج الألعاب قد تغير حياة الفرد في بضع دقائق، بالنظر إلى جوائزها المالية الخيالية، فما الذي سيجعل طفلاً أو شاباً مثلاً يسلك مساراً تعليمياً طويلاً وشاقاً سيفضي به إلى البطالة لا محالة، بينما بإمكانه الثراء بمجرد مزاولة رياضة أو المشاركة في برنامج ألعاب تلفزيوني؟
فكرة الهجرة وآفاق العمل التي يمكن أن توفرها الدول الأوروبية خاصة، أو الغربية بصفة عامة، أسهمت هي الأخرى بشكل كبير في جعل التعليم مسألة ثانوية، حيث سيطرت هذه الفكرة على عقول الشباب ومن هم في سن الدراسة، فشكلت بديلاً عن التعليم يختصر الزمن في سبيل حياة أفضل، وهو ما نتج عنه ارتفاع مهول لظاهرة الهجرة غير الشرعية (الحرقة)، التي لم تعد حكراً على جنس معين ولا حتى على فئة عمرية بعينها، بل طالت هذه الظاهرة الأطفال والإناث ممن هم في سن الدراسة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.