التكنولوجيا والعلوم الحديثة وبفضل التطور، جعلت العالم قرية صغيرة يكاد لا يحصل أمرٌ إلا وعرفناه في لحظته، بفضل وسائل التواصل الاجتماعي. وبالتأاكيد فإننا سنتفاعل مع الأمور بغضّ النظر عما إذا كانت مفرحة أو محزنة، وبدورنا سنشارك هذه الأخبار ونتحدث عنها فترة زمنية معينة، ولكن لو توقفنا برهة فسنجد أن هناك أشخاصاً يشاركوننا الأفكار والتوجهات المعرفية والثقافية نفسها، لكن قد لا يكونون ضمن الرقعة الجغرافية عينها التي نعيش فيها، بمعنى أن الصداقة لا تُبنى على أساس القرب الجغرافي وحسب، أو لغرض تبادل الأحاديث والأسرار، وإنما لغرض التغذية النفسية والعقلية والروحية، لتكتمل أبعاد الصورة الحياتية.
قد لا تجد الشخص المناسب (الصديق) في محيطك، وهذا أمرٌ محبط، لكن لو تمعنّا أكثر لوجدناه من أكثر الأمور حماسةً.. لماذا؟ لأن الصديق عندما يكون من خارج بيئتك أو محيطك الجغرافي، فإنه سيبذل جهداً أكبر في التعبير، لنقل صورة أوضح عن محيطه وأفكاره، لتقدَّم بشكل مفهوم ومنسق أكثر للمتلقي، والعكس صحيح.
ولنفرض مثلاً أنك مهتم بالأدب والروايات الروسية، وتريد أن تعرف أكثر عن طبيعة الكتاب والظروف التي كتبوا فيها الروايات وبشكلٍ أعمق من المتداول في الإنترنت، فبالتأكيد سيكون من الأجدرِ التواصلُ مع أشخاصٍ يعيشون ضمن تلك البيئة، سواء من السكان الأصليين أو المقيمين ممن يتحدثون لغتك، إذ ستكون اللغة التي ستتواصل بها عاملاً مهماً، فقد تكون اللغة العربية أو لغة أجنبية أخرى مفهومة من قِبل الطرفين أو حتى مترجم فوري، فقد أصبحت تطبيقات الترجمة تأخذ مساحة مهمة في التواصل بين الناس، وبذلك سيكون الطرفان متقاربين بالأفكار والحوار.
ما نشهدهُ اليوم هو التقيد والعزلة ضمن البيئة الواحدة، لكون أغلب الأفكار ما هي إلا استنساخ للغير أو تقليد أعمى من دون أدنى فهم، لكن في بعض الأحيان لا بأس في نقل فكرة أو مبادرات إيجابية، بشرط إخراجها بشكل يتلاءم مع الواقع، حتى لا تكون مشوهة أو مكررة، والأهم أن تخلق الإيجابية في نفسية المتلقي.
إذا كنتم مختلفين أو غير تقليديي الأفكار ووجدتم أنفسكم محاطين بالعقول التقليدية أو ذات الفكرة الأوحد، فهذا لا يعني أنكم مرضى نفسيين أو مُعقَّدين، بالعكس هذا يدل على أن حاسة الفضول المعرفي والحياتي قوية جداً لديكم، وتنظرون من زاوية معقدة ليس بإمكان الكثرة الكثيرة الوصول إليها وبلوغها، أو قد يكونون كسالى إلى حد عدم التفكير مجرد تفكير في أن يفعلوا شيئاً مغايراً يستحقُّ أن يشد الأنظار إليه.
الاختلاف لا يعني بالضرورة التشوه، وإنما أحياناً قد يرمز إلى الغرابة في التعبير عما يدور في عقولنا، وهذا الاختلاف في التعبير قد نجده في أبسط مثال وهو فن "الكولاج"، الذي يعتمد في أساس تركيبه على جمع عناصر مختلفة ومتضادة لأجل الخروج بمنجزٍ منظم ومنسق بشكل ابتكاري، فقد نختلف في بيئتنا التي نعيش فيها أو الدولة أو المنطقة أو العِرق أو الجنس…إلخ، لكن الاختلاف ستكون محصلته النهائية صورة رائعة تجمع مكوناتٍ متضادة متجانسة تظهر لتُرضي الفضول المعرفي والحياتي المتنوع، المهم أننا نؤمن بما نريد فعله، لنزيد عزيمةً وإصراراً ولنصل إلى أبعد مما خططنا له.
الصداقة الحقيقية ليست مجرد مُواقف أو صندوق لكتمان الأسرار، الصداقة الحقيقية دواء لجروح الروح، وتغذية إيجابية للعقل، العقل الذي يفكر بطريقةٍ فريدة لا يفهمها إلا عقل آخر يفكر بالطريقة نفسها، وإلا فسنبقى غرباء في واقع، لن أقول عنه مُرّ، لكن سأقول سنبقى سجناء التواصل التقليدي.
لم يكن العدد الكبير من الأصدقاء يفرق يوماًً مع من يكون بالعقل متصلاً ومتوائماً، فالتخاطر الذهني اليوم أصبح واقع حال ليس مجرد تقارير مصورة، فقط أصحاب العقول ذات الأفكار المتقاربة أو المتشاركة سيفهم بعضهم بعضاً، ولن تمنعهم لا حدود ولا لغة ولا شيء تحت مسمى "مستحيل".
وفي النهاية صداقة الأرواح أغلى وأسمى من أي نوع من الصداقات، لأنها شفافة ولا يشوبها أي عداء أو مطامع شخصية، فهي تكون غذاء للروح قبل الجسد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.