قبل البدء دعنا نتذكر سوياً أن ماوريسيو ساري قدم عروضاً مميزة للغاية في إيطاليا مع نابولي، بل وكان الأقرب لحسم لقب الدوري من يوفنتوس في عديد المناسبات، قبل أن يصطدم بـ "شخصية البطل" ويخذله ضعف قائمة الفريق وقلة الخبرة ليخسر الدوري في آخر الجولات.
دعنا أيضاً نتذكر أن ساري صاحب تجربة جيدة مع فريق تشيلسي، الفريق الذي كان يطمح لتأسيس مشروع طويل الأمد مع ساري قبل أن تدب الخلافات بين المدرب ولاعبيه من جهة، والمدرب والإدارة من جهة أخرى. لكن تذكر أن رغم ذلك ساري حقق بطولة الدوري الأوروبي وضمن مقعد للفريق في دوري أبطال أوروبا وحظي بلقبه الأول في مسيرته التدريبية ليكون الختام جيد.
مررنا على هذه المحطات سريعاً وبإيجاز حتى لا نقف أمام سؤال، نحن في غني عنه، عن جودة ساري وأفكاره وكي نؤكد أن ساري ليس مدرب سيئاً ولا يصح وصفه بذلك.
بعد فوز تشيلسي على أرسنال في نهائي الدوري الأوروبي الموسم الماضي وقف جميع اللاعبين والجهاز الفني لنيل الميداليات والجوائز، لقطة تقليدية تحدث في مراسم التتويج لا تشغل بالنا بشيء يذكر. لكن في تلك اللحظات كان ساري يختبر ويعاين طعم الذهب للمرة الأولى في مسيرته. في لقطة رومانسية للغاية، ربما بالغ البعض في وصفها، وقف ساري يحدق في الميدالية الذهبية وربما كان عقله يستعرض شريط حياته أمامه بدءاً من مكتبه في أحد البنوك الذي كان يعمل به ثم ترك المحاسبة برمتها والركض وراء شغفه بالكرة ومعافرته مع فرق الدرجات الدنيا في إيطاليا إلى أن وصل إلى نابولي ومن ثم تشيلسي، بضع ثوانٍ أخرجت لنا لقطة درامية واقعية يكاد يكون تأثيرها أقوى من عديد لقطات السينما.
نتذكر تلك اللقطة مع شريط الذكريات الذي بدأناه، لأنها كانت مهمة في المهمة التي سيدخل فيها ساري فيما بعد. فالمدرب الإيطالي نال إشادات واسعة بعد تلك اللقطة وخرج علينا مدربو التنمية البشرية ليعلمونا معنى المثابرة والصبر، وبلا شك رفعت من قيمة ساري التسويقية والجماهيرية.
"ماذا يدخنون هناك في الإمارات؟".. كان هذا رد جون هنري مالك نادي ليفربول على محاولة نادي أرسنال التعاقد مع لويس سواريز بدفع (40 مليون باوند+1 باوند) وربما لو علم جون أن هذه التغريدة ستستهلك في المقالات والأوساط الرياضية حتى يومنا هذا، لما قاله من قبل. لكنه يظل موقفاً من أطرف المواقف الرياضية التي قد تلجأ لها في أي وقت وفي أكثر من مناسبة.
لكن السؤال الآن هو: "ماذا يدخنون في تورينو؟". عودتنا السيدة العجوز أنها دائماً الفائزة بسباق الصفقات المجانية سواء من أجل تطويرها والاستفادة منها مالياً، كما حدث مع بول بوغبا، أو التعاقد مع لاعبين أثبتوا أنفسهم لدرجة ما ويبحثون عن تحدٍّ جديد مثل رامسي ورابيو، أو استغلال مشاكل بعض اللاعبين مع أنديتهم وضمهم مثلما حدث مع بيرلو. كما تسير إدارة السيدة العجوز في اتجاه آخر وهو التنقيب عن المواهب الشابة وضمها والعمل على تطويرها للخروج بأفضل أداء ممكن منها.
لكن ما فعله اليوفي في مطلع الموسم، هو اتباع اتجاه وإهمال الآخر. توجهت الإدارة صوب آرون رامسي لاعب الأرسنال المنتهي عقده، والمتمرد الباريسي رابيو. وفي المقابل تخلصت من موهبة شابة واعدة مثل الظهير البرتغالي كانسيلو لحساب موهبة تائهة مثل دانيلو. ولا تظن أن تأثير الدخان قد انتهى، بل تم تدخين سيجارة جديدة وطلب اليوفي التعاقد مع مهاجم مانشستر يونايتد آنذاك روميلو لوكاكو مقابل مبلغ مالي بالإضافة إلى ديبالا. لكن الأخير رفض البقاء ليذهب لوكاكو إلى إنتر ميلان. ما حاولت فعله إدارة يوفنتوس في نافذة الانتقالات الصيفية أشبه بمن أضرم النيران في عقر داره حتى لا يشعر بالصقيع.
العشوائية سيدة الموقف
مع رجوع زيدان إلى تدريب ريال مدريد مرة أخرى، خرجت تقارير من الصحف الإسبانية تؤكد أن هذه العودة مشروطة. وأن زيدان وضع الخطة المناسبة لوضع مدريد علي الواجهة من جديد، وأن رئيس النادي فلورنتينو بيريز سينصاع وينفذ. قد تبدو هذه مبالغة بعض الشيء خصوصاً مع عملية التضخيم الصحافية في بعض الأحيان، لكنها تبدو منطقية، لأن زيدان تعاقد بالفعل مع اللاعبين الذي طلبهم باستثناء بوغبا الذي رفض ملاك مانشستر التخلي عنه.
أما اليوفي فقد تعاقد مع اللاعبين في البداية، ثم تذكر أنه يحتاج إلى مدرب ليدرب هؤلاء اللاعبين، فتعاقد مع مدرب، نعم بهذه السهولة ودون إثارة أسئلة مقلقة مثل مدى تماهي وتوافق جودة وإمكانيات هؤلاء اللاعبين مع أفكار المدرب. لا تتعجب لأن الاسم الذي وقع الاختيار عليه لتنفيذ هذه المهمة كان ماوريسيو ساري، الرجل المتعطش لحصد البطولات.
تذكر ساري تلك اللقطة الرومانسية بينه وبين الميدالية الذهبية، وتمنى أن تتكرر مراراً وتكراراً، وهو الأمر المضمون في تورينو فاليوفي مسيطر تمام السيطرة على البطولات المحلية في إيطاليا التي ظلت مستعصية على ساري طيل سنواته في الجنوب الإيطالي.
الأزمة التكتيكية
بالنظر إلى أكثر فترات ساري تميزاً، أي مع نابولي، نجد أن فلسفة المدرب تعتمد علي أركان ثابتة تتداخل سوياً حتى تخرج لك المتعة التي أطلق عليها "كرة ساري" أو Sarri-Ball.
في نابولي، اعتمد ساري على الشكل الخططي 4-3-3 بوجود محطات تكتيكية مهمة شكلت له هذا التفوق، ليس من المنطق ذكر كل أسماء التشكيل، ولكن المحطات التي سنتوقف عندها هي ما صنعت نابولي قوي مع هذا الرجل.
الخروج السليم بالكرة والتدرج بها من المناطق الدفاعية هي أول مرحلة تشغل بال أي مدرب يحبذ فكرة الاستحواذ. وعدم فقدان الكرة في المناطق الدفاعية والتدرج السريع الذي يتيح فرصة استغلال السرعات هي السمة الثانية التي يحبذها أيضاً مدربو الاستحواذ. لم يكذب ماوريسيو خبراً وتعامل بطريقته الخاصة مع هذه المبادئ، فأوجد جورجينيو في مركز ابتدعه له بوضعه في المنتصف بجوار كلٍّ من ألان وهامسيك لينظم جورجينيو عملية الخروج الكرة. فيما يقوم متوسطو الميدان الآخرون بتقديم الحماية الدفاعية، هذه التركيبة تحتاج إلى سرعات في الثلث الأمامي قادرة على التحرك بشكل مستمر في عدة مناطق، وهو ما تواجد في كاليخون، إنسيني وميرتنز.
هذا ما وضع عليه ساري رهانه في إيطاليا ولا نحتاج لنذكرك مرة أخرى أن هذا الرهان كان ناجحاً، لكننا نتذكر هذا الرهان حتى نتذكر رهاناً آخر فشل في إنجلترا بنفس الأفكار، فساري حتى وإن أخذ معه جورجينيو إلى تشيلسي في تجربته الثانية إلا أنه لم يبهر عشاق البلوز أو حتى متابعيه بنفس مقدار الإبهار الذي وجد في نابولي، لكنها تجربة قصيرة، ولا يجب علينا الحكم من خلالها.
أين الأزمة إذًا؟
هذا هو السؤال الذي نود الإجابة عنه، فبعد التدقيق فيما مضى من مرحلة
"يوفنتوس ساري" حتى الآن، لا نجد أي ركن من أركان ساري الذي كان يشكلها،
بل إن ساري يحاول تشكيل تركيبة أخرى لا تمت لفلسفته بصلة، تركيبة يحاول من خلالها
لصق و "تلصيم" مجموعة اللاعبين المتواجدين تحت يديه وإيجاد الحلول. بدأ
ساري بجريمة بدنية في حق فريقه بوضع رونالدو كجناح في الرسم الخططي 4-3-3، لكن
الجريمة لم تكن في جاهزية رونالدو البدنية لأداء هذه الأدوار أو ملاءمته الفنية
لهذه الخطة فقط. لكن اعتمد ساري على ثلاثة لاعبين في وسط الميدان واحد منهم فقط هو
القادر على تأدية المطلوب منه وهو البوسني بيانيتش. أما البقية، ماتويدي وخضيرة
وبنتانكور ورامسي ورابيو فلم يثبتوا أنهم قادرون على الاندماج في منظومة ساري حتى
اللحظة.
غيّر ساري الرسم الخططي بعد فشل محاولاته في دمج اللاعبين في منظومته السابقة
وانتقل إلى الـ 4-3-1-2 لكي يضع متوسط ميدان رابعاً قادراً على إحكام
السيطرة على الكرة وتوفير خيار تمرير إضافي في منتصف الميدان. فكرة تبدو منطقية
للغاية حتى تكتشف أن اللاعب الذي تم إضافته في منتصف الميدان هو بيرنارديسكي.
ليكون صانع ألعاب في العمق، بعيداً عن المساحات التي يبحث عنها بطبيعته، كما أنه
مطالب بالضغط الشرس في منتصف ميدان الخصم حال فقدان الكرة، فيما يتحول رونالدو
لمهاجم ثاني بجانب هيجواين أو ديبالا أو أياً من يختاره ساري.
إذاً نحن أمام مشكلة لا تحتاج لشرح أو نظرات عميقة في الفريق، ساري لا يملك الأسماء التي تعطي له المساحة والأدوات الكافية ليطلب منهم الأدوار التي تنتج "كرة ساري".. من المسؤول؟ ما الحل؟
بعض التنازل لا يضر
في البداية كان الاقتراح باستبدال ديبالا بلوكاكو بيد الإدارة، لكننا الآن نرى ديبالا على دكة البدلاء بقرار من ساري، كما أن الألماني القادم بالمجان إيمري جان صار مجمداً ومستبعداً من قائمة الفريق الأوروبية.
قد نتفهم القرارات الفنية المبنية حول فكرة ما، لكن جلوس ديبالا على الدكة لم يكن مبنياً على أي شيء سوى الفلسفة الزائدة من ساري. لأن ديبالا استطاع إثبات نفسه أمام العالم بأكمله وليس فقط لساري في أكثر من مناسبة. يستبدله ساري بأحد اللاعبين في الدقيقة الـ70 مثلاً، فيلعب ويسجل ويضمن دخول النقاط إلى حساب يوفنتوس ثم تأتي المباراة القادمة فيجلس على الدكة ثم يشارك فيسجل ويقلب المباراة رأساً على عقب.
أما جان فيعاني هو الآخر من القرار المجحف بتجميده، حتى تهور ساري في إحدى مباريات الدوري ودفع به، ليتفاجأ ساري والجماهير بأن جان يناسب الأسلوب الحالي للفريق، فلماذا إذن التجميد؟
حسناً نحن لسنا هنا للناقش قرار تجميد جان أو معاملة ديبالا، نحن نضع أمامك الموقف ونفكر سوياً، إذا كان التنازل يحقق الهدف المرجو فلِمَ لا؟ لماذا لا يتنازل ساري عن أفكاره و يتعامل بالموجود حالياً؟
لماذا ساري؟
بالنظر في تاريخ ساري غير الحافل بأي شيء غير القصص الاجتهادية للرجل، سنجد موقفين قريبين يوضحان لنا حجم المشكلة الملقاة على عاتق هذا الرجل.
في الموسم الماضي، وفي لقطة مشهورة في نهائي كأس الكارباو أمر ساري يتغيير حارس مرمى البلوز كيبا ببديله كاباييرو ليرفض كيبا الخروج من الملعب ويستمر باللعب رغم أنف المدرب وأمام أنظار العالم. يمر الموقف وتمر معه الأيام التي تحدثت فيها الصحافة عن ضعف شخصية ساري حتى يحدث حدث آخر يؤكد فيه الرجل مصداقية الصحافة. بعد تدخل عنيف من ديفيد لويز على هيجوايين في المران ترك ساري الحصة التدريبية منفعلاً دون أن يقدر على احتواء الموقف.
لا عجب إذاً أن يعلن رونالدو تذمره ونفاد صبره من استبدال ساري له فيخرج من الملعب مغادراً لبيته وتاركاً زملاءه في أرضية الميدان. العجيب هو أن الإدارة كانت تنتظر مشهداً أكثر احترافية وتكاتفاً بين الطرفين على الرغم من كون ساري ضعيف الشخصية، ورونالدو صعب المراس.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.