بعدما اشتد عوده، واستوى على سوقه، يُعجب القاصي والداني، عفواً لم يعجب الداني لخسته وخيانته وعُقَد نقصه، فضيق الخناق، سد ومنع كل سبل التنفس والحياة، لتتحول إلى جحيم، إنه فن التعذيب، أي إمساك الحياة في الألم القاتل المميت، لا موت ولا راحة لقَريحَتك وأعصابك الهائجة الملتهبة، بل تموت في اليوم ألف مرةٍ ومرة، تظل هكذا معلقاً كالذبيحة بين الحياة والموت، حيث روحك حبيسة مصيدة القهر والإذلال والخنوع، ومع ذلك كان هناك ثبات وصمود دؤوب في وجه الموت الغاشم الممسوخ في صورة إنسان، وليس العكس، فعلى ما يبدو أصبح الموت في صورته النهائية وبصفته الحقيقة الوحيدة المطلقة والشيء الأكثر عدالة على وجه الأرض، أهون بكثير من وجه هذا الإنسان، الخفي، كلا ليس خفياً، الجميع يتهاوى، يئن، يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة، الجميع يتقيأ ويلفظ أحشاءه، إنه الرجل الجيفة.
الجو مُعبَّق بروائح موت عفنة كريهة، إنه الرجل الجيفة، الذي يقتات على الجِيَف، يلتهم أرواحها، ينهش لحومها، هناك، داخل أحشائه، بين ضلوعه، هناك، حيث دمائه السَيَّارة، موتى بهوية، آخرون مجهولو أو مشوهو الهوية، جثث ذائبة.. أخرى مقطعة الأوصال، إنه الرجل الجيفة، الوجود كله من حوله يختنق، الحجر قبل البشر، ولا يزال يصر على أن يطل عليهم بوجهه البشع السمج القبيح، وبأنفاسه المُشعة الخانقة.
ماذا نصنع إذن؟ لا حراك فينا، لا حياة لمن تنادي، فقط ترتكن برأسك الثمل الخامل، على رسغك الخائر، من الهم والألم الذي ينخر في قلوبنا، من التفكير المُضْني الذي لا ينقطع برهة واحدة، تهرب منه إليه، العزول بين النبضة والأخرى، تتجرعه مع كل شربة، تمضغه مع كل لقمة، تسعى جاهداً، تستدعي أنبل الصفات والمثل والمواقف لعله يبرحك أو حتى يخمد لهيبه، فما من فائدة، تنتقل إلى الطرف الآخر حيث أقذر وأبشع الخيالات من عوالم الجنس والمخدرات، لا شيء يلهيه أو يسيطر عليه، لقد قبع فيك كمستعمر أبدي، إن عقلك بين قبضته، يعتصره عصراً كما تُعتَصَر خصيتان بيدٍ ساديةٍ، عيونك الناعسة الجاحظة المنتفخة، تتأوه في صمت شديد، عقلك الثمل الخامل، يعصره التفكير المُضْني عصراً، لكن بلا فائدة، صراخ داخلي بلا كلمات وتعابير وافيةٍ شافية.
عندما يتوقف الزمن فجأةً، ينفصل الماضي تماماً عن الحاضر، الواقع صادم مريب، المستقبل مجهول مخيف، إنه تشيرنوبل، إنه الرجل الجيفة، يوماً ما كتبت البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، في رائعتها المأساوية "صلاة تشيرنوبل": تبين أن الواقع أعلى ليس فقط من معرفتنا، بل ومن تصوراتنا أيضاً، اتضح فجأة أن الماضي عاجز وغير قادر، لا شيء فيه تستند إليه، ليس في أرشيفات البشرية كلها مفاتيح كي نفتح هذا الباب، سمعت عبارات "لا أستطيع إيجاد الكلمات لأعبر عما شاهدت وعايشت"، إنه تشيرنوبل، البحث عن كلمات للأحاسيس الجديدة، أحاسيس للكلمات الجديدة، إنه تشيرنوبل، إنها روائح موت عفنة كريهة تخنق الوجود، إنها الجيفة السَيَّارة، تأكل في طريقها ما تأكل، تخنق أنفاسها البشعة ما تخنق.
جيلٌ تخلى عنه النبض، رغم حداثة سنه، تخلى عنه الكبار، رغم حداثة سنه، عاش رجلاً، مات رجلاً، عن… أتحدث، أمثولة الرجولة، ببساطةٍ، الماضي لم يستطع ولن يستطيع حمايتنا، لم يعد العصا التي يمكن الاتكاء عليها للعبور إلى بر الأمان والسلام، إن ظننا في لحظة ما أن الخلاص في كنفه متاح، فاعلم أننا خُدِعنا، ممن حولنا أو من أنفسنا، لأنه وكما يتراءى للجمعاء، أن الماضي لم يكن أبداً أسوأ وأقذر ما لدى الحياة، كي تقدمه لنا على موائد الأفراح قبل الأتراح، لا يزال في جعبتها ما يصدمهم، يصيبهم بالعجز والهوان، الخزي والعار، ببساطةٍ، إذا كنا لا نصدق أن الماضي عاجز وغير قادر، مثل الكهول الحكيمة البائسة المُتخاذلة تماماً، فلنبحث إذن في ذلك الأرشيف التاريخي الأليم عن توصيف شافٍ للألم الحالي، عن الاستيلاء على نبض الشباب، مَضغِهم مَضغَاً بأنياب وحش كاسر.
قوافل الطعام والشراب والجنس سائرة، سائرة كالقطيع في أعداد لا متناهية، تلتهم وتشرب وتجتَّر وتضاجع، بين كل غصةٍ وغصة، تلتهم وتشرب وتجتَّر وتضاجع، صوت وحيد، صوت مستغيث، صوت واهن ضعيف، رغم كونه الحقيقة، لكنه واهن ضعيف، لأنهم نبذوه، تركوه وحيداً، لعله أرادهم أن يأكلوا ويشربوا ويتناسلوا في كنف حياة آدمية كريمة، لعله، أما الأكيد أنه لم يُعيّر أحداً بخلقته وجسده المُتَرهِل غير المتناسق، لم يذّل أحداً بالفقر وقلة الحيلة، العجيب يكمن في رحم الأيام، الأيام شيطان فاضل، ليس هناك شيء أشد بأساً من الأيام، الأيام شيطان فاضل، يفرش البساط ممهداً لذوي النفوس الخائنة المريضة، والعقول الشاذة، يصيبهم جنون العظمة ولوثة السلطة، فيسطون ويتجبرون، ثم بملء فيه يقهقه حتى تدمع عيناه، يتمايل طرباً وتلذذاً وهو يرى هؤلاء يلفون المشانق، خيطاً خيطاً، حول رقابهم، قوافل الطعام والشراب والجنس هارعة في أعداد لا متناهية، صوت وحيد، صوت مستغيث، صوت الحقيقة، واهن ضعيف، لكن لا شيء أشد بأساً من الأيام.
كثيراً ما نوصف أننا نخاف ولا نختشي، نحب ونعبد من يخنقنا ويطبق على رقابنا، فقط نسخر ونتهكم ممن نأمن عقابه، أما من يسطون علينا، يبطشون بنا، فنتجنب بتاتاً التندر بهم، بل يعتبر طيف واسع ذلك قوة وهيبة من المُتجبِر، وربما حقاً أصيلاً يخول له التصرف في تلك القوة كيفما يشاء، لكن لا بد ألا نستغرب الطيف الواسع، الهش الضعيف من البسطاء، ما دام هناك مثقفون أفّاقون استغلوا الحرية المتاحة يوماً في غير موضعها، مساهمين في الاستيلاء على نبض الشباب، بل نبض أمة بأكملها، لذا لا غرابة يا سادة، فقد قالها يوماً مارك توين: "في حين الأكذوبة تلف وتجوب الأرض، لا تزال الحقيقة ترتدي حذاءها"، فهل ارتدت الحقيقة حذاءها حقاً أم لا تزال مترددة؟! وكيف لا تزال مترددة وقد صارت الحياة حجر عثرة، بل صخر صماء تجسم على الرقاب والأنفاس؟! ليس ثمة خيار سوى أن تهشمنا جميعاً دواليك دواليك، أو بضربة رجلٍ واحدٍ نهشمها، لعلنا نتنفس الصعداء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.