أنتمي لأسرة بسيطة من الطبقة المتوسطة، طوال حياتي وأهلي يوفرون لي كل ما نحتاجه، ولم أشعر يوماً أني مفتقد لأي شيء، سواء فيما يخص الطعام أو الملابس أو التعليم أو باقي الرفاهيات. لم يبخل علي أبي بأي شيء احتجته، دعمني هو وأمي فيما يخص كل الكتب والمجلات التي كنت أعشق اقتناءها، وعندما طلبت كمبيوتراً لأول مرة عام ٢٠٠٢، سحب مبلغاً من المال وأعطاه لي، واشتريت الكمبيوتر الذي كان سبباً في تغيير حياتي. تخصصت في هندسة الحاسب الآلي، وعملت في مجال التكنولوجيا، وأطلقت منصة تدمج عشقي للكتب والتكنولوجيا وريادة الأعمال. موّل أبي حصولي على شهادات معتمدة من مايكروسوفت، وأعطتني أمي أول مبلغ افتتحت به متجراً صغيراً للحلويات في شارع جدي عندما كنت طفلاً.
وبعد تخرجي من الجامعة واعتمادي على نفسي، كان دخلي يكفيني للمعيشة ولتمويل الأنشطة التي أحبها، الكتب، وحفلات الموسيقى، وتذاكر السينما، وهواية التصوير، والسفريات والمخيمات، ومزيد المزيد من الكتب، ومزيد المزيد من المطاعم التي أحب تجربة جديدها.
لم أكن يوماً فقيراً، والفقر ليس عيباً إطلاقاً، لكن كنت محظوظاً أنني لم أفتقد العديد من الأشياء التي ساعدتني في تطوير حياتي وتحقيق العديد من الأشياء الجيدة. لكن ما حدث أنني تعرضت للإفلاس لفترة ليست بالقصيرة، وهذا عندما بدأت في إنشاء شركتي الخاصة.
إنشاء بزنس خاص أو شركة جديدة ولو حتى صغيرة ليس عملاً سهلاً، وخصوصاً فيما يتعلق بالأمور المالية، ولأن تلك المغامرة كانت الأولى بالنسبة لي، ولأن الـ Startups حسب التعريف تعتمد على خوض غمار تجربة جديدة بإطلاق منتج جديد في سوق جديد وبالتالي تجد نفسك أمام مساحة غامضة يكون عليك استكشافها خطوة بخطوة. كما يتوجب قبول فكرة أن العديد من الأمور التي ستكتشفها قد لا تسعدك. خرجت الأمور عن سيطرتي خلال أول سنتين عملت فيهما على مشروعي، ونفد رأس المال الذي كنت وضعته مع شريكي للمشروع سريعاً، ووجدت نفسي لأول مرة في حياتي مفلساً، بدون دخل شهري ثابت، وبدون وظيفة ثابتة آمنة.
ومن هنا بدأت سلسلة فكاهية جداً من الأمور التي استعنت بها لأستطيع البقاء على قيد الحياة تلك الفترة وتخطيها بنجاح، وهذه أمثلة للكيفية التي كنت أتدبر بها تكاليف معيشتي اليومية بأقل نقود ممكنة على الإطلاق:
١) كنت أعتمد بشكل كامل على الطعام الرخيص، ليس المهم الطعم أو النوع أو الجودة، المهم الكمية.. المهم الكمية الأكبر لتشبعني، واستغرقت وقتاً أطول كلما أقبلت على هذا النوع من الطعام. لأوقات كثيرة كنت أتدبر طعام اليوم كله بخمسة أو عشرة جنيهات، أشتري بها فولاً وأقراص طعمية وخبزاً بلدياً من أحد المطاعم الشعبية. ولأوقات أخرى كنت أزور بوفيه بأحد سلاسل الهايبر ماركت حيث يقدم الأرز والخضار مع ربع دجاجة بسعر ٢٥ جنيهاً، وكنت أنقد العامل سراً ٥ جنيهات أخرى ليضاعف لي كمية الأرز والخضار وليضع لي قطعة لحم إضافية أو بضعة أصابع محشي، وكانت تلك الوجبة تعني يوماً كاملاً من الطعام غداءً وعشاءً.
٢) نسيت فكرة ملء خزان بنزين السيارة كما تعودت على "تفويل التانك" من قبل، وكان مشهداً معتاداً أن أدخل البنزينة لأضع بـ ١٠ جنيه بنزين!! (هذا قبل تحرير الأسعار) لتكفيني فقط للذهاب من مكان عملي لبيتي أو العكس، عدة كيلومترات قليلة، لحين تدبير مبلغ المشوار القادم، وهكذا.
٣) اعتدت على مصادرة الأشياء المجانية الموجودة في المقاهي والمطاعم، أكياس السكر الصغيرة، أكياس الكاتشب (التي كنت أستخدمها أحياناً كوجبة خفيفة مجانية في نصف اليوم عند الشعور بالجوع أو الإرهاق)، والأكواب البلاستيكية والمناديل الورقية. وأذكر أنني كنت مدعواً لمؤتمر في دولة عربية (كلما تذكرت هذا الأمر ضحكت بشدة) وكانت الدعوة تشمل تذكرة الطيران والإقامة لعدة أيام وبالتالي لم أتكلف شيئاً. لكن غرفة الفندق لم يكن بها أكياس سكر، كانت توفر أكياس الشاي والقهوة فقط، وكنت أخشى أن أطلب السكر من خدمة الغرف فيكلفني ذلك أموالاً لا أمتلكها. وبالتالي كنت أذهب لمركز تسوق قريب من محل الإقامة لأمر على ستارباكس لأحصل عى أكياس مجانية من السكر قبل أن أهرول خارجاً، لم أكن أشعر بالإحراج إطلاقاً وقتها.. ربما كنوع من التخفيف عن نفسي، كنت أشعر أنني في مغامرة ما وحسب.
٤) منزلي الجديد الذي كنت استأجرته قبل وقوع أزمتي المالية تلك، ظل شهوراً طويلة فارغاً من الأثاث. لم أمانع أن أنام على بطانية مفروشة على الأرض لمدة شهور، وأقضي وقتي على "بين باغ" بسيطة أقرأ وأكتب وأعمل من عليها.
٥) توقفت عن هوايتي في شراء الكتب والأسطوانات الموسيقية وارتياد السينما، وحتى الجريدة اليومية التي أتابعها منذ يوم صدورها "الشروق" قررت أن أوفر الجنيهات القليلة التي تذهب يومياً في ثمنها لشيء آخر أهم مثل الطعام أو الوقود. ووجدت البديل في الكتب الـ PDF وتحميل الأفلام وألبومات الموسيقى (وهو الأمر الذي أخجل منه كوني مناصراً لحقوق الملكية الفكرية، لكني لم أستطع أن أمنع نفسي وقتها من ذلك). حتى جريدة الشروق وجدت منها نسخة PDF تصدر يومياً مجاناً. وبالتالي وجدت ما أسد به جوعي الثقافي والفني وإلا كنت سأموت من الجنون بالفعل، يمكنني أن أعيش بلا طعام لكن لا أستطيع الاستغناء عن الكتب والموسيقى والأفلام.
٦) اعتمدت كثيراً في اتصالات الهاتف على خاصية "كلمني شكراً" لتوفير النفقات، واستلاف "خمسة جنيه" رصيد من شركة المحمول. وشراء باقات إنترنت صغيرة جداً أعتقد أنها كانت بـ١٠ جنيهات آنذاك وذلك لتلبية احتياجات الاتصالات الضرورية للغاية بدون أي رفاهيات قد تبدو للبعض طبيعية في ذلك الوقت.
٧) اجتماعياً، لم أستطع مجاراة أصدقائي في السفر والتنزه وارتياد المطاعم والمقاهي التي اعتدت عليها. وكنت أدعو الأصدقاء لمنزلي بدلاً من ذلك للجلوس في الشرفة وتبادل الحديث ولعب المونوبولي وشرب الشاي بالنعناع والمياه لا أكثر. أشياء بسيطة غير مكلفة لكنها كانت تقوم بالمطلوب.
٨) تعرضت لمواقف كثيرة لم أجد فيها معي أي نقود تماماً، في إحدى المرات كنت على سفر مع أحد الأصدقاء خارج القاهرة وكانت الخطة أننا سنعود بسيارته مرة أخرى. لكن حدث طارئ وكان عليه أن يتركني ويذهب للتعامل مع أمره العاجل. ووجدت نفسي ومحفظتي خاوية ولا أعلم كيف سأعود للقاهرة. يومها بعت ساعتي الجي-ووتش (وأنا أعشق هذا النوع من الساعات) بـ٥٠ جنيهاً في محل لبيع الساعات وقيمتها الحقيقية تزيد عن ٤٠ ضعف هذا المبلغ، وقبلت ذلك من أجل أن أجد أجرة العودة للبيت. يوماً آخر كنت عائد بسيارتي من الإسكندرية وبآخر نقود معي وضعت بنزيناً في السيارة ونسيت تماماً أنه سيتوجب علي دفع قيمة الطريق، وقبل بوابات طريق الإسكندرية/القاهرة صففت السيارة وأخذت أبحث تحت الكراسي عن العملات المعدنية التي تسقط مني أحياناً هنا وهناك وتختفي تحت فرش السيارة.. وبأعجوبة قمت بتجميع المبلغ من الجنيهات المعدنية المنسية عبر السنين، ومر الموقف على خير.
على الرغم من أني حاولت الصمود في تلك الفترة وأخذ الأمور ببساطة والتعامل مع مسألة الإفلاس كأمر هين وكوميدي سريعاً ما سيمر، إلا أن وضعي المادي المتأزم كانت له أضرار جانبية بالغة على أمور كثيرة في حياتي. على سبيل المثال كان علي أن أوفر نفقات شهرية لطفلين أعولهما، ولم يكن أمامي غير الاقتراض لأوفر لهما شهرياً مصاريفهما أول كل شهر، بينما أعيش أنا على الفتات باقي الشهر. لا يهم طالما أن الأولاد لا يشعرون بتغيير في نمط معيشتهم. وهو ما أوقعني في دوامة عنيفة من الديون، استلفت من عشرات الأشخاص، وتعثرت في السداد لفترة طويلة، ما وضعني تحت ضغط نفسي عنيف عانيت منه فترة طويلة وكان أحد الأسباب الرئيسية لوقوعي تحت طائلة الاكتئاب وذهابي للعلاج النفسي لفترة طويلة (وهذا موضوع آخر سنتحدث فيه في مقال قادم منفصل). أيضاً ساهم نظامي الغذائي الخاطئ والتوقف عن ممارسة الرياضة في زيادة وزني بشدة (٤٠ كيلو غراماً زائدة عن الوزن المثالي في ذلك الوقت)، وانقطعت عن العديد من العلاقات العائلية والاجتماعية، وأهملت عنايتي بمظهري وملابسي لفترة طويلة.
وبعد أن تخطيت، الحمد لله، تلك الفترة العصيبة، بعد أن قمت مرة أخرى بالتركيز على الطرق الربحية في المشروع الخاص بي، والتركيز على علاقات العملاء، وتغيير نموذج العمل التجاري الخاص بالمشروع، وهي الأمور الحاسمة التي ساعدت في وضع الأمور في نصابها السليم سريعاً.
أجد في إعادة نظر سريعة لتلك الفترة.. بعض الدروس المستفادة:
١) من أهم الأسباب التي وضعتني في الأزمة المالية تلك، أنني في مشروعي الناشئ كنت أركز على جلب استثمار للمشروع وإبهار المستثمرين بمدى عظمة المشروع الخاص بي وإمكانياته المستقبلية الكبيرة، أكثر من تركيزي على تحقيق مبيعات وأرباح حقيقية في الحاضر والوقت الحالي. وهو أمر شائع في محيط ريادة الأعمال في مصر، حيث أصبح مقياس النجاح هو زيادة رأس مال الشركة عبر المستثمرين وزيادة تقييمها، أكثر من كون ذلك المقياس النجاح في تقديم الخدمات وتكوين دائرة من العملاء الراضين عن الخدمة والذين يوفرون تمويلاً مستمراً للشركة عبر دفعهم المال مقابل تلك الخدمات. وبالتالي كان انتباهي لتلك الأزمة وذلك التناقض والعيب في أسلوب التفكير، دافعاً رئيسياً لاجتياز الأزمة. وفي وقت قياسي بعدما قررت أنني لن أسعى وراء المستثمرين حينها وسأسعى وراء العملاء الراضين عن الخدمة التي أقدمها، كنت قد تخطيت الأزمة بنجاح، وبدأت الأموال في الدخول للشركة من جديد.
٢) اليوم بعد أن رجعت مرة أخرى لممارسة الرياضة ولنظام تغذية صحي وبسيط أستهلك من ١٥٠٠ لـ ١٧٠٠ كالوري يومياً، وعندما أحسب عدد السعرات التي كنت أستهلكها وقت الأزمة كانت لتتعدى ضعفين، أو ثلاثة أضعاف هذا الرقم. المسألة ليس لها علاقة بكمية الطعام التي تبقيك على قيد الحياة، لأنه بنمط حياة بسيط وسليم لن تقع في أزمة مع الطعام، لأن أقل كمية بسيطة وصحية وغير مكلفة قادرة على أن تبقيك بطاقة عالية وبنشاط ودون زيادة في الوزن أو متاعب صحية.
٣) الاستدانة من الأهل والأصدقاء والمعارف قد يبدو سهلاً ومغرياً ووسيلة سريعة للحصول على المال، لكني إذا عاد بي الزمن لن أستدين مليماً لا أعلم يقيناً متى سأقوم برده، حتى لا أضع نفسي تحت ضغط المطالبة بالسداد وحتى أتفادى عشرات المواقف المحرجة التي تعرضت لها مع أشخاص كرماء قرروا مساعدتي والوقوف معي في محنتي في تلك الفترة العصيبة. أن تكون واضحاً مع نفسك ومع صديقك الذي سيقرضك، بموعد السداد، أو إعلامه مسبقاً أنك لا تعلم بالضبط متى ستستطيع رد الدين هو أمر أفضل بكثير من أن تعطي موعداً جزافياً للرد ولا تلتزم به، وتضع نفسك تحت ضغط نفسي كبير.
٤) كان عدم توقفي عن ممارسة هواياتي ومتابعة شغفي من أهم العوامل التي ساعدتني على تجاوز تلك الفترة العصيبة وعلى رأسها، شغفي الأكبر، الكتابة. كنت محظوظاً أنني لم أتوقف عن كتابة المقال الأسبوعي الذي كان ينشر على أحد المواقع العربية الكبرى، ولم أتوقف عن كتابة القصص القصيرة، ونشرت في تلك الفترة ثلاثة كتب إلكترونية عبارة عن مجموعات قصصية لاقت صدى جيداً جداً. وهو الأمر الذي كان منحني دفعة معنوية احتجتها بشدة للشعور بنوع من الإنجاز والتقدير، الذي ساعدني على تخطي تلك الفترة.
٥) علاقتي بأمي، صخرتي القوية -متعها الله بالصحة والعافية- كانت من أهم الأسباب التي مدتني بالأمل والإصرار على تخطى الأزمة. خبرتها في الحياة وإيمانها العميق بابنها وقدراته كانت تنقذني في لحظات يأس كثيرة. وقد تعلمت أن أبقي علاقتي بأمي قوية جداً وأن تكون أولوية قصوى في حياتي، ونجحت في أن تكون أمي صديقتي أكثر من مجرد أم وكفى. وبالفعل كنت أجد في محادثتها في الهاتف أو رؤيتها أو زيارتها ينبوعاً من الطاقة الإيجابية والدعم النفسي الذي كنت أحتاجه في تلك الفترة. وكانت دائماً تقدم لي ذلك بكل عطاء ودفء ومحبة غير مشروطة ودون أن تحكم علي أو تجلدني بالندم على خيارات أخرى كان علي أن أتخذها بدلاً من الخيارات التي اتخذتها. وهو الأمر الذي أشعر بالامتنان البالغ من أجله.
في النهاية، أشعر بالشكر الحقيقي لتلك الفترة التي تعلمت منها الكثير، مئات الدروس التي تساعدني يومياً في تحسين حياتي وفي اتخاذ قرارات أفضل سواء على المستوى الشخصي أو مستوى العمل أو مستوى العلاقات، ولم أكن يوماً لأتعلمها بذلك القدر وبهذا العمق والأثر البالغ، لو لم أمر بتجربة الإفلاس المضحكة المبكية تلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.