لم يشعر قلبي برهبة كتلك التي أصابتني منذ عدة أيام، تحديداً في الساعة الرابعة عصر الثاني عشر من صفر 1441، العاشر من أكتوبر 2019، كلما اقتربت السيارة التي أقلتنا من المطار اشتدت واشتدت تلك الرهبة، يا إلهي! إنه لأمر لو تعلمون عظيم، رغم حرارة السماء، التي لم أعهدها منذ خمس سنوات بعد خروجي من مصر واستقراري في إسطنبول، ذات الطقس المعاكس تماماً لبلاد الحجاز، بل إن حرارة مصر لا تساوي شيئاً هنا.
تلك البقعة التي تحيط بها الجبال من مكان والشمس الحارقة تؤجج سماءها، إلا أن شعوراً عجيباً يغمرني، على بعد كيلومترات تبدأ إحدى المآذن في الظهور، قلبي يتأرجح شمالاً ويميناً طرباً من عذوبة الصوت ونديّه ومهابة لا أعلم سببها! الروح مستأنسة والنفس لوهلة تذوق طعم السكينة وراحة البال! إنه أذان الحرم المدني، قد رُفع لصلاة العصر، ليلهج لساني بصوت عال: السلام عليك يا رسول الله، وكأنني أقولها لأول مرة، قلتها بكل كياني من أعماق قلبي، حتى وإن رددته كثيراً من قبل إلا أن المقام والمكان اختلفا، شعرت كأنني أدخل الإسلام من جديد!
يا رباه هل أنا في مدينة رسول الله حقاً؟!
ترى هل ثلاثتنا "زوجي وبنتي وإياي" ضيوف جديرون بتلك الضيافة؟ هل مُرحب بنا؟
أم فرَضنا أنفسنا غير مُستحقين ذاك الشرف وهذا المقام العظيم؟
هل تأذن لنا يا رسول الله؟
بكيت كثيراً وأنا أقول: ائذن لي يا نبي الله في مدينتك، لم أشرف برؤيته حياً، لكن يا إلهي تعلم أني أحب رسولك الكريم، وأؤمن بما جاء به، وأشهد أنه رسول الله وخاتم أنبيائك والمرسلين، بلغ الرسالة وأدى الأمانة.
وصلنا للفندق الذي يبعد مائة متر تقريباً من الروضة الشريفة، صعدنا لنضع أمتعتنا ونخفف من ملابسنا، مُسرعون لنلحق الصلاة في جماعة، تلك الطرقات العطرة لم أرها من قبل، لم تُصورها لنا الفضائيات، لم تنقل لنا بائعي العطور والبخور، المنتشرين في كل متر تقريباً حول الحرم، من يعرفني عن قرب يعلم أني عاشقة للعطور الشرقية، الرائحة تفوح في كل مكان ودخان المحلات يتطاير رحيقاً وعبقاً، إنه بخور العود الأصيل، فجأة نزل المطر يا إلهي هل أنا في جنة؟! ما هذا!
نسرع الخطى تقريباً نهرول لنلحق بالجماعة، فقد دخلوا في الصلاة، وابنتي على عنق أبيها مبتهجة شعرها الحلزوني الطليق يُهفهف في الهواء، تعانق حبات المطر بكفيها، وتعلو ضحكاتها مرحاً وسروراً، وكأنني في حديقة غنّاء بثمارها وأزهارها من حولي، رغم نُدرة النبات، وأصوات طيور ندية تطرب أذني، والأنهار تجري من تحتي، دون وجود لأثر نهر أو مسطح ماء، تشعر بالشيء محسوساً في فؤادك دون وجوده في الواقع، لا أصل للمادة هنا! منطقياً هذا الإحساس لا يمكن أن نشعر به في صحراء قاسية كالمدينة، المنطق والفلسفة وقوانين المادة لا أساس لها هنا! لا معنى للعدم في حضرة الحال وهذا المكان!
رسول الله أمامي وبيتا أبي بكر وعثمان المُغلقان على يميني، وحمَام الحرم يحلق من فوقي، ومطر خفيف من السماء يتساقط على وجهي! إنها جنة الأراضي المقدسة!
بعد الصلاة في الساحة الواسعة، تأملت الحرم، لا لا مختلف عما شاهدته في التلفاز، إنه شيء آخر، ذاك الشعور الذي كان يصلني من الشاشات، لا يساوي شيئاً في عيش لحظة هنا!
ما هذا الجلال والجمال والبهاء والعظمة؟ مازال بدني مقشعراً، لم يهدأ روع قلبي، مازلت لا أصدق أنني هنا أصلاً! قدماي لا تحملني أنا في السماء!
ما هذا النور الذي يخترق ظلمات نفسي ويذهب وحشتها ويطرد مخاوفها!
لا أراه لكني أشعر بأشعته تضيء كل ذرات بدني وتُنير خلاياه!
حينها تذكرت عندما عادت جدتي لأبي (حفظها الله) من العمرة الثانية، كنت في المرحلة الثانوية آنذاك، مرت عشر سنوات تقريباً، لأجدها تبكي بمجرد أن وصلت البيت "وهي التي قد أدت فريضة الحج من قبل مع جدي (رحمه الله) أيضاً يعني كانت تلك المرة الثالثة لها، فتقول قبل الدخول: يارب اكتبهالي تاني! لأتعجب وأقول في نفسي "إنتي لحقتي ياستو؟!"
الآن أفهم ذلك الشعور، أفهم تلك الوحشة من جديد، فليس من سمع، كمن ذهب واقترب! وليس من رأى عبر الشاشات كمن اغترف غَرفة من ذاك الضياء!
الآن أفهم أن "تحويشة العمر" لا تساوي ذرة شعاع نور واحد في تلك البقاع المطهرة!
ثلاثة أيام بلياليها قضيتهن في المدينة، رحلة عمري الأولى، التي ما قدرتها حق قدرها، ولو أُتيحت لي الفرصة مرة أخرى ما ترددت في الفرار إلى هناك!
رجعنا بأبداننا، وقلوبنا ما زالت هناك!
هناك وما أدراكم ما هناك!
فاللهم جمعاً للأرواح بأبدانها في حضرة رسول الله.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.