بالنظر إلى الأحوال القائمة في العالم الإسلامي، فإن الإعلام يحتل أهمية فاقت كل حد وكل تصور، بل يمكن القول إنه المسيطر على مجرى الأحداث بنسبة كبيرة، بما له من قدرة التأثير على الرأي العام والحشد، وإبراز قضايا والحط من أخرى. وبما له أيضاً من قدرة على نقل الصورة غير الكاملة بما يتوافق مع السياسات والأيديولوجيات الخاصة بالوسيلة الإعلامية التي تخدم أهدافها. وبتطبيق نظرية "وضع الأجندة" التي بها تحدد الوسيلة الإعلامية ما تريد أن تُعلم الجمهور به، فتضخِّمه وتعرضه بتفصيل على رأس الساعة في كل نشرة أخبار، وما لا تريد أن ينتبه إليه الجمهور تعرضه بإيجاز في ذيل النشرة أو البرنامج.
هكذا صار الإعلام سلطة رابعة بما له من قوة ونفوذ، حتى إنها يمكن أن تفوق قوة السلطات الثلاث الأخرى.
ووسيلة مهمة كهذه بالتأكيد لم يغفل عنها الإسلام، بل إن للإسلام وسائل إعلام من نوع خاص، تعود إليه فقط ويتفرد بها تفرداً ساطعاً.
منذ بداية الدعوة ونزول الوحي على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وعلاقة الإعلام بالإسلام كعلاقة الحبر بالقلم، فلن يجلو ما يكتبه القلم إلا بوجود حبر به. فما كانت بداية الجهر بالدعوة إلا خطبة لرسولنا، عندما نزلت الآية "وأنذِر عَشِيرَتكَ الأَقرَبِينَ". ليصعد النبي على قمة جبل الصفا وجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عُدي، يا بني عبدالمطلب، حتى اجتمعوا، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغير عليكم، أكنتم مُصدِّقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
فما كان الإسلام إلا إعلاماً لجميع الخلق بتوحيد الله عز وجل، وتحريم عادات الجاهلية الفاسدة ورفع الظلم والعنصرية، بل توافرت في ظل انتشار الإسلام قواعد الإعلام التي نحلم بها وننشدها الآن، فكان موضوعياً يتقبل الرأي والرأي الآخر، يتسم بالحرية حتى حرية الاعتناق. ويتسم بالقوة في الرد على الشائعات والأكاذيب، كما تجلى دوره في كشف الفساد والظلم، وتحلى بالقيم الإنسانية في الأزمات والمشكلات.
لكن هناك في أصول هذا الدين وسائل إعلامية واتصالية فريدة تحمل مبادئه باستمرار وتؤصّل دوره في حياتنا وتجدده في قلوبنا كل حين، وكانت الخُطب إحدى هذه الوسائل، التي لو أدّت واجبها لكان حال المسلمين غير الحال!
أولاها خطبة في أبناء الحيّ الواحد بصلاة الجمعة كل أسبوع؛ بها تذكِرة بالله وشرائعه، بها إعلام بما انتشر من قضايا وموضوعات ورأي الدين فيها وموقعه منها، بها وصايا تؤخذ في الاعتبار طوال الأسبوع حتى لقاء جديد.
ثم يأتي تجمُّع أكبر منه وهو صلاة العيدين -الفطر والأضحى- ليصبح اجتماعاً نصف سنوي لعدد أكبر من المسلمين، حيث إن صلاة العيد تُصلى في الخلاء والأماكن الواسعة بأعداد كبيرة، لتحمل خطبة العيد أوضاع المسلمين في بقاع الأرض، ووصايا لما يمكن عمله وتقديمه للأمة الإسلامية، فحتى في الأعياد لا تُنسى قضايا الأمة.
بعد ذلك يأتي ما هو أكبر في الحج، تجمُّع سنوي لملايين المسلمين من أنحاء العالم، وفضلاً عن مناسك الحج تأتي خطبة يوم عرفات ككلمة موحدة لهذا الجمع الكبير من الحجاج، فما المنتظر من كلمة في هذا الحشد العظيم إلا أن تكون داعمة لتوحيد الأمة من بعد شتاتها، وتذكيرها بأصلها العريق وتاريخها المجيد، ولجمعها على كلمة سواء تساعدها على مواجهة التحديات والحرب على دينها، ليعود كل حاجٍ إلى دولته حاملاً فكرة وهدفاً وقضية؛ ويساعد على نشرها في محيطه.
هذه وسيلة تواصل قد كفلها الإسلام وهيَّأها لتصبح الأمة على تواصل مستمر بعضها مع بعض ومع ربها، أما خُطَبُ المسلمين اليوم فأصبحت واهنة! لا تدعو إلى شيء، كجذوع النخل الخاوية لا تحمل هدفاً ولا قضية.
وفي الواقع لقد تم استغلال هذه الخطب في الترويج لشخصيات ورؤساء وملوك، هم في الحقيقة أبعد ما يكون عن نصرة الإسلام. رؤساء وملوك أدركوا أن الخُطبة وسيلة خطيرة أشد الخطورة إذا أدت واجبها كما ينبغي، فوقفوا حائلاً بين ذلك، بداية من خُطب الجُمَع حتى خطبة عرفات، التي لا ترقى لحدثٍ مثل الحج، وأصبحت خُطب المسلمين مقهورةً في المساجد، موقوفاً لها بالمرصاد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.