ابتسامة لطيفة، وحوار سريع خاطف مع موظفة شركة الطيران، قبل الصعود إلى الطائرة أمَّنا لي مقعداً محاذياً للنافذة.
هذه عادة أداوم عليها منذ زمن؛ لأنني لا أحب المقاعدة المحاذية للممر على الإطلاق، ولا أطيق الجلوس فيها.
يُشعرني الجلوس على أحدها وكأنني في حافلة مكتظة بالركاب، خاصة إذا وجد أحد أحباب الله لا يتوقف عن البكاء.
بعد قرابة الساعة والنصف طلب قائد الطائرة من الركاب ربط الأحزمة والعودة بمقاعدهم إلى الوضع القائم، فالطائرة على وشك الهبوط. حوَّلت نظري إلى النافذة لأتابع عملية الهبوط فلم أجد سوى مساحات خضراء شاسعة تبدو كالمراعي وبعض الأجسام التي تبدو متناهية الصغر هي بالتأكيد ماشية.. لكن هل سنهبط هنا؟
نعم، سنهبط هنا. يقع مطار تيرانا فعلياً وسط الحقول، والبهائم شاهدة على كمٍّ لا متناهٍ من الطائرات الصاعدة والهابطة.
بعد دقائق معدودة رحب بنا قائد الطائرة في ألبانيا. نزلت إلى مبنى المطار الذي كان أصغر من "محطة مصر" في رمسيس، ضيِّق بشكل ملحوظ وسقفه منخفض، وسوقه الحرة متواضعة وبسيطة. لكن للأمانة فإنك لا تعاني من الزحام مطلقاً، فالنظام هناك صارم بلا حدة وبسيط بلا تعقيدات. وصلت حقائبي سريعاً وتسلمتها بالفعل ثم توجهت نحو موظفة الجوازات لتضع الختم على جواز سفري.
والحقيقة أنني أذكر الأخيرة لا لشيء سوى أنها كانت آية في الجمال والرقة، حتى إنني ما زلت أذكر ملامحها رغم مرور خمس سنوات الآن على لقائنا الأخير.
خرجت من المطار واستقللت حافلة إلى وسط المدينة؛ حيث تقبع الشقة التي استأجرها لي صديقي. لكن الطريق لا يعطيك إحساساً بأنك في القارة الأوروبية، أو للدقة لم يتماهَ ما شاهدته بعيني مع الصورة الذهنية عن أوروبا في رأسي. كانت الطرق متواضعة للغاية، تحتاج إلى الكثير من الإصلاحات حتى تصبح آمنة. فالطريق السريع يتكون من حارتين (رايح – جاي) دون فاصل حديديّ بينهما، لتصبح تجربة هذا الطريق أقرب إلى مغامرة ترفع معدل الأدرينالين في الدم وتزيد من دقات القلوب. بالرغم من أنني لا أتذكر أن السائق قد تجاوز سرعة الـ80 كيلومتراً/ساعة أبداً لكن المرور المفاجئ لنعجة أو حصان قد يقلب كافة الموازين والسيارات أيضاً.
على كلٍّ وصلت بسلام إلى الشقة أخيراً وفرّغت حقائبي وقررت التجول في المدينة قبل الظلام، وهنا بدأت سلسلة من الانبهارات والمفاجآت لن تنتهي حتى نهاية الرحلة.
أولاً، أغلبية سكان ألبانيا مسلمو الديانة. ثانياً، ألبانيا هي أول دولة ملحدة (بلا دين) في العالم.
عندما وصلت إلى تيرانا كان شهر رمضان قد هلّ هلاله، فتزين جامع المدينة الكبير، وتبسَّمت الوجوه، وفاحت رائحة البيتزا في الأرجاء في نهار الشهر الفضيل. لا أحد صائم تقريباً، بل أكاد أجزم ألا أحد يعرف أننا في شهر رمضان من الأساس، كل شيء يسير بوتيرته الطبيعية بلا أي استثناءات. المطاعم مزدحمة، سائقو الأجرة يدخنون، العواجيز يجلسون على المقاهي، والطواحين لا تتوقف.
بدأ ينفد صبري، فقررت ذات نهار التحدث مع أحدهم بشأن هذا الموضوع، توجَّهت صوب مطعم صغير كنت قد اعتدت شراء إفطاري من عنده وفتحت معه الموضوع مباشرة، هنَّأني الرجل البشوش بقدوم الشهر الفضيل ومن ثَم أصر على أن نشرب كوب قهوة "ماكياتو" معاً. ثم أخبرني أنه لا يصوم سوى ليلة القدر، فسألته وكيف تعرفها يا عبقري؟
فأخبرني أنها ليلة السابع والعشرين ثم تعجب أن عربياً مثلي لا يعرف هذه الحقيقة الدينية البسيطة.
الدين في ألبانيا هو أقرب إلى التراث المهجور منه إلى الممارسة والاعتقاد، أو إذا أمكنني القول فإن الغالبية العظمى من المسلمين الألبان هم "مسلمون على الورق" فقط. إلّا ساعة صلاة عيد الفطر، يومها ذهبت إلى الجامع بلا توقعات
على الإطلاق، لكنني وجدت المسجد ممتلئاً عن بكرة
أبيه والساحة أمامه مكتظة بالمصلين الذين يصل عددهم إلى عدة آلاف على أقل تقدير.
وجدت لنفسي موقعاً وسط الجمع الغفير وما إن انتهيت من الصلاة ونظرت إلى يميني حتى
وقعت عيني على ذراع موشوم عليه صليب طويل. التقطت أنفاسي وقمت بتحية الشاب
بمناسبة العيد ثم صارحته بالحقيقة: "هذا عيد المسلمين يا صديقي، ويبدو من
الصليب المرسوم على ذراعك أنك مسيحيّ، فماذا تفعل هنا؟". بلطف جم وأدب
بالغ تحمل الرجل تطفلي وأجابني: "لا، هذا عيد ألبانيا، وليس عيداً
للمسلمين أو المسيحيين فقط".
لكن بعيداً عن المناسبات والأعياد الدينية، فإن المساجد قليلة العدد وخالية من
المصلين سوى صفوف معدودة أغلبها من الطاعنين في العمر. والحجاب لا تراه إلا إذا
صادفت أسرة عربية في الطرقات. وإذا طلبت ساندويتش شاورما لحم يوماً ما هنالك، نعم
الألبان يأكلون الشاورما، فتأكد أنها مطبوخة من لحم الخنزير.
تختفي مظاهر الدين الإسلامي تماماً كما تختفي مظاهر المسيحية أيضاً، وإن بقيت أرواحهم محسوسة في الأرجاء. لكن وإن اختفت الأديان ومظاهرها إلّا أن الأخلاق حاضرة بين الناس. خلال شهرين كاملين في ألبانيا لم أشاهد مشاجرة أو حالة تحرش ولم أتعرض لأي سلوك عنصري على الإطلاق. كانت البساطة هي السمت العام للبلاد وأهلها.
بساطة تنعكس في أحجام المباني المتوسطة والصغيرة التي يستطيع المرء أن يشعر بنفسه في مواجهتها بدلاً من أن يكون منسحقاً أمام العمران. لا توجد أبراج سكنية شاهقة ولا مراكز تسوق عالمية ضخمة ولا مكان لناطحات السحاب هناك. كما أنك لن ترى سيارات فارهة، ومن المستحيل أن تجد فرعاً لماكدونالدز أو كنتاكي أو ما شابههما من مطاعم الفاست فوود هناك. وكأن أمريكا وثقافتها الاستهلاكية لم تمر بعد من ألبانيا.
لكن رغم غياب الثقافة الأمريكية ومظاهرها فإن أغلبية سكان ألبانيا يتحدثون الإنجليزية بطلاقة ويُسر حتى كبار السن منهم. حتى إنني تعرضت لموقف محرج في إحدى الأسواق عندما أوقفت شاباً ليترجم طلبي إلى السيدة العجوز العاملة في قسم الجبن، إلا أنها صرخت فيّ بحدة وبلكنة إنجليزية رفيعة المستوى: "تحدث إليّ مباشرة، أنا أعرف الإنجليزية".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.