قديماً اجتمع مجموعة من المطبّعين المصريين والعرب في مدينة كوبنهاغن بالدنمارك ودعوا علناً للتطبيع مع إسرائيل. ولأن حق التعبير لدى الشعوب العربية لم يكن قد طُمس تماماً كما هو الحال الآن، هاجت الدنيا وماجت تنديداً بما سمّوه حلف كوبنهاغن. ولكن لأن مَن اجتمعوا في وارسو ببولندا لم يكونوا أفراداً بل نظم حكم عربية تمتلك العصا الغليظة، ونادوا ليس فقط بالتطبيع مع إسرائيل، بل التحالف معها عسكرياً ضد عدو مختلق، عدو لها في الأصل وليس عدو لهم، لم يحدث أي احتجاج إلا عبر وسائل التواصل الاجتماعي فقط وذلك بعد إغلاق المجال العام بالضبة والمفتاح. وهو ما لا يعني أبداً رضا الشعوب عن تلك الخطوة بقدر ما يعني أنها في حالة ذهول. وأن ردة فعلها لن تظهر إلا بعد امتصاص هول الصدمة.
لم تضع إسرائيل الشعوب العربية يوماً في حسبانها، ولم تسعَ أبداً للتقرب إليهم، رغم أن ذلك كان الأفضل لها والحل الأكثر منطقية. بل راحت تشتري ولاءات حكامهم وحكوماتهم، واستخدمتهم تارةً في خوض حروبها -وحلف وارسو أبلغ صور ذلك- وتدعمهم تارةً في قمع شعوبهم، وذلك طمعاً في الانتصارات السريعة، غير عابئة إن كان الثمن تجريع تلك الشعوب كل هذا الاستبداد والهوان.
وفي الإجمال مع وجود أمثال هؤلاء الحكام، وهؤلاء الإعلاميين، وتلك النخب، يصبح سؤال: (لماذا نكره إسرائيل؟) واحداً من ضمن حزمة الأسئلة الواردة في حياتنا، مع أن هذا الطرح في حد ذاته دليل بين على أننا أمة فقدت الوعي.
لماذا نكره نحن الشعوب العربية إسرائيل؟ الإجابة ببساطة لأنها هي مَن تكرهنا، واختارت أراضينا من دون عدة أراض اقترحتها عليها بريطانيا لتنهبها. ونحن نقاوم جيش إسرائيل لأنه هو مَن يقتلنا ومذابحه بحق مواطنينا ملء السمع والبصر منذ تأسيس هذه الدولة حتى الآن.
بينما تطلق المقاومة عليهم صواريخها قصيرة المدى وصغيرة الحجم ويدوية الصنع، وهم مَن اعتادوا رجمنا بالنابالم، وطائرتهم تسبح في سماواتنا لتهطل على أطفالنا ونسائنا الرصاص المصبوب والقنابل الفوسفورية. لدينا مقدساتنا الراسخة على الأرض في أراضينا فسعوا هم لهدمها لكي تعلو مقدساتهم المزعومة.
يدينون العرب ويصمونهم بالإرهاب والتطرف لأن الكثيرين منهم "يتمنون" زوال احتلال دولة "إسرائيل"، رغم أنها هي ببساطة من "أزالت فعلاً" دولة تاريخية لدينا كانت قائمة على الأرض اسمها فلسطين وقامت على أنقاضها. فضلاً عن أن بُعد إسرائيل الاستراتيجي -وليس بُعدنا نحن- يعتمد على إزالة عدة دول عربية أخرى تنفيذاً لشعار مقدس لديهم بالتمدد من النيل للفرات. كما أن العرب لا يعتبرونها جزءاً من المنطقة لأنها أصلاً جزء من المستعمر الذي أنشأها في أراضينا لتستكمل مهمة هدمنا.
قضيتنا أكبر
قضيتنا كشعب عربي مع إسرائيل أكبر بكثير من استلابها أراضينا وتشريد شعب من شعوبنا، وأكبر حتى من استلاب كبريات مقدساتنا وتدنيسها ومحاولات هدمها، ففي الواقع شرّدت كل الشعوب العربية، وقضت على كل أمل لنا في التطور والنمو.
فما نعانيه نحن كعرب من تفشي نظم حكم استبدادية غير رشيدة لدينا -من دون العالم أجمع- والتواطؤ الغربي لإفشال ثورات الربيع العربي. إنما يأتي في الواقع تنفيذاً لإرادة إسرائيلية يجعلها هي مَن تنصّب علينا حكامنا طبقاً لرؤيتها، لاغية بذلك إرادة وأحلام ونضالات مئات الملايين من المحيط للخليج. وبالطبع تسبب ذلك في إراقة دماء مئات الآلاف من شعبنا العربي حتى أصبح حديث الموت اليومي غير ذي أهمية ناهيك عن مئات آلاف المعتقلين والمهجرين.
كما أن إسرائيل هي مَن تطارد علماءنا في كافة المجالات العلمية، وتقوم بتصفيتهم بغية إبقائنا في حالة التخلف الحضاري، وليس أولهم المؤرخ جمال حمدان ود. سلوى حبيب مدرس السلوك الإسرائيلي في إفريقيا، وعلماء الذرة د. يحيى المشد ود. سميرة موسى ود. سمير نجيب ود. نبيل القليني ود. سمير نجيب ود. أحمد فليفل والعشرات من تلك النماذج، ولأن إسرائيل هي مَن تنصّب علينا حكامنا يضيع دم تلك الثروة البشرية التي لا تقدر بثمن هدراً دون اتخاذهم مواقف ولو شكلية.
ما المطلوب من إسرائيل؟
اعتقدت إسرائيل أنها باستخدام القوة المفرطة ضد المقاومة ودعم الاستبداد في بلادنا اكتسبت حصانة وقوة، والأصوب أن العكس صحيح. فالصورة التي نجحت إسرائيل في تصديرها للغرب وحتى فئات من الشعب العربي على مدار عقود من الزمان بأنها واحة للديمقراطية وسط قطيع من النظم المستبدة سقطت في السنوات الماضية تماماً وأدرك الجميع أنها دولة عنصرية تحمي القطيع العربي المستبد بل وتصنعه، وتقف ضد تطلعات شعوبه في الديمقراطية.
وليس سراً أن تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه لولا السعودية لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة، ثم دفاعه عن ابن سلمان على ما عرف عنه من استبداد عالمياً بعد ارتكابه جريمة خاشقجي قد وثق انهيار صورة إسرائيل في أنظار المخدوعين بها في العالم.
في الواقع نحن كشعب عربي لا نتجنى على إسرائيل ولكن عليها هي أن تحسن صورتها في أعيننا حتى نستطيع أن ننظر لسلام حقيقي معها، وأن تقوم كما يقول المثل الشعبي "بتقديم السبت" كي تجد "الأحد" ، وذلك عبر رفع يدها عن دعم النظم الاستبدادية، وعبر التوقف عن استهداف الشعب الفلسطيني، والتوقف عن إعاقة استقلاله على جميع الأراضي المحتلة بما فيها القدس الشريف، وعبر احترام مقدساتنا وعدم تدنيسها، وعبر عدم استهداف علمائنا ومبدعينا وعدم استهداف شعوبنا بالأوبئة والأمراض والحرب البيولوجية.
لدينا مثل شعبي في مصر يقول: "افتكر لك إيه يا بصلة وكل عضة بدمعة"، فقد كان بإمكان إسرائيل أن تكسب ودّ الشعب العربي لكنها للأسف اختارت كسب ودّ جلاديه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.