ما هي العدمية؟
العدمية مذهب أدبي وفلسفي إلحادي، يهتم بالعدم باعتباره الوجه الآخر للوجود، بل هو نهاية الوجود، وبه نعرف حقيقة الحياة بعيداً عن النظرة المثالية والنظرة الواقعية السطحية. ومن مبادئه أن البشر يتصارعون، وهم يدركون جيداً أن العدم في انتظارهم وأن صراعهم يفوق طاقتهم البشرية. لذلك يتحول صراعهم إلى عبث لا معنى له.
ومن العدم الوجودي إلى عدم الفرد وعدم الدولة، يسير النموذج الجزائري نحو اللادولة واللانظام. عبثية العدميين امتدت لتطال كل مَن قدم مبادرات لحل الأزمة السياسية في الجزائر من شخصيات سياسية فاعلة تم اتهامها بالعمالة مع "نظام بوتفليقة" لمجرد موقف لها في مرحلة ما. ما أدى بمن يحظون بشرعية وقبول شعبي للتراجع والتزام بيوتهم وإطباق الصمت.
تخوين وتُهم بمصطلحات هجينة مثل "المبردعين، الكاشيريست.."، كلها مسميات وأوصاف يرمى بها كل من اقترب شبراً من مساحة السلطة الفعلية. "الرفض العدمي" ألقى بثقله على كل المبادرات بما فيها تلك المتعلقة بالأصوات المقتنعة بمخارج الأزمة عن طريق الحوار السياسي وصولاً إلى الانتخابات الرئاسية التي ضبطت بوصلتها بتاريخ 12 ديسمبر/كانون الأول القادم. رفض تحت ذريعة لا شرعية العملية والتوجس المسبق من التزوير الذي شاب العمليات الانتخابية السابقة.
تزايد الظاهرة العدمية بات يشكل أرقاً سياسياً لصناع القرار في الجزائر، وتزايدت معه مخاوف السلطة من التصادم وتطور العنف اللفظي الذي يتحلى به أولئك العدميون إلى عنف جسدي غير محمود العواقب. وتجسدت هذه المخاوف واقعياً بحوادث التهكم والتهجم على دعاة الانتخابات ولم يسلم منها حتى المرشحون الخمسة للانتخابات الرئاسية. الغريب في الأمر أن تلك المطالب العدمية صادرة عن منتسبين محسوبين على الحراك الشعبي – الذي بدأ ينحرف عن مساره الذي وجد من أجله – وتناقض منتسبيه مع سلوكياتهم، فمن جهة تجدهم يطالبون بالممارسة الديمقراطية وفتح المجال للمعارضة الحقيقية للتعبير عن مطالبهم. ومن جهة تجدهم يفرضون آراءهم على الفئة المقتنعة بالانتخابات كمخرج من الأزمة السياسية التي تعصف بالبلاد لما يقارب العشرة أشهر. تعنت تلك الأصوات العدمية بات يستدرجها إلى مرحلة الانتحار السياسي بأشبه ما يكون بظاهرة الكاميكاز الياباني Japanese kamikaze في الحرب العالمية الثانية. إذ تسود حالة من التشدد والعنف اللفظي لكنها لاقت استهجاناً ورفضاً واسعين على منصات التواصل الاجتماعي، ودفعت الحراكيين إلى مراجعات عميقة في فكرة "تمثيل الحراك" التي رفضها العديد منهم بداية المظاهرات، وفضلوا بذلك تجنب الوصوليين لقيادة الحراك ومضوا دون قيادة تجنباً لالتفاف بقايا النظام عليه وإجهاضه. لكن الأحداث الأخيرة المحسوبة على حراكيين عززت من الندم على عدم تقديم قيادات للحراك بغية محاورة السلطة الفعلية وبحث مخارج للأزمة وفق مطالب الحراك.
إصرار السلطة الفعلية بالذهاب إلى مخارج الأزمة سياسياً تم تعزيزه من خلال اليوم الثالث من زيارته إلى الناحية العسكرية الثانية بوهران غرب الجزائر، حيث التقى الفريق قايد أحمد صالح بإطارات وأفراد الناحية وأعلن فيها أنه أسدى تعليمات إلى قادة النواحي والقوات ومختلف المصالح الأمنية "للشروع فوراً في اتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لتأمين العملية الانتخابية عبر كافة التراب الوطني حتى يتمكن شعبنا من أداء واجبه الانتخابي في ظروف يسودها الأمن والسكينة". هذا ما يعتبره أنصار الحل الانتخابي دعماً معنوياً كمخرج للأزمة السياسية، ويبعث المزيد من الارتياح لدى المرشحين الخمسة لخوض غمار السباق الرئاسي ويعزز من حضور المخارج الدستورية ويدحض المخاوف من المراحل الانتقالية والمجالس التأسيسية.
الدعم المعنوي والإجرائي الذي قدمته المؤسسة العسكرية ترجم بمباشرة باعتقال بعض المعارضين للانتخابات والذين صدرت عنهم تصرفات مسيئة للمترشحين الخمسة. والذين قاموا بافتعال أحداث الشغب في مداخل القاعات التي تحتضن الحملات الانتخابية للمترشحين ورشقهم بالبيض وامتدت إلى صورة نستهجنها جميعاً بالاعتداء على امرأة تحمل صورة أحد المرشحين، بشكل يجسد حدة وعنف الفئة العدمية والإقصائية.
بالعودة إلى تطورات المشهد السياسي الجزائري نجزم وبشدة أن الفئة التي أفرزها الحراك بعد أشهر من المطالب والمظاهرات، تمارس انتحاراً سياسياً بالشكل الذي يسيء إلى الحراك الشعبي أكثر مما يفيده ويفسح المجال ويعطي كل المبررات للجهات الأمنية لقمع تلك التصرفات وحماية الأفراد والممتلكات مخافة الانزلاقات الأمنية والزج بالبلاد إلى موجة جديدة من العنف والتطرف.
فبحسب متتبعين سياسيين واقتصاديين فإن مخرج الانتخابات هو الأقرب إلى تجنيب البلاد المزيد من التعقيدات والمخاطر من لا شرعية دولية للنظام وحالة اللاأمن وتدهور الظروف الاقتصادية التي تزيد من معاناة المواطن الجزائري وتثقل كاهل الخزينة العمومية في ظل مواصلة الاعتماد على الدخل الريعي للنفط وتزيد من الحرج على صعيد الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع شركات دولية فاعلة، ناهيك على الالتزامات تجاه المؤسسات المالية الدولية، وتنقص من رصيد الجزائر كفاعل إقليمي ودولي في المنطقة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.