لا أُخفي ولعي بالسينما الهندية والأكل الهندي أيضاً، فمنذ فترة الصّبا كان لديّ شغف بأفلام بوليوود، وأتذكر أنني وابن عمتي كنّا ننتظر يوم الجمعة بفارغ الصبر الذي نخصصه للذهاب إلى سينما قاعة الصداقة في العاصمة السودانية الخرطوم، وسينما القاعة كما يسميها الشباب كانت عامرةً بالأفلام الهندية والصينية في مطلع القرن الـ21، حيث تحرص الإدارة على المواكبة بعرض أحدث الأفلام لجذب الجمهور العاشق للسينما الهندية.
وأحياناً عندما نحب التغيير من قاعة الصداقة نذهب إلى سينما "النيلين" ذلك المبنى الشهير الذي يقع شرق مساكن الشرطة في منطقة أبوحمامة بالخرطوم، وبالقرب منه يقع ميدان الديم الشهير.. كانت تواجهنا آنذاك نظرة كبار السن لرواد السينما، خاصة من المراهقين والشباب، فكبارنا كانوا يرون الذهاب إلى السينما مضيعةً للوقت إن لم يكن سفاهة بحسب اعتقادهم، ولكنّ جيلنا كان مفتوناً بأبطال السينما الهندية مثل سونيل شيتي وسلمان خان وآكشاي كومار ومن الجنس اللطيف كارينا كابور وديبيكا بودكون وبيريانكا تشوبرا.
حتى الآن، ما زلت أشاهد السينما الهندية متى ما سنحت لي الظروف، خصوصاً أن أفلام بوليوود أكثر واقعية في عصرنا هذا، وأكثر حرصاً على الدراما المعقولة وليس المبالغ فيها كما كانت سابقاً، كأن تشاهد شخصاً واحداً "البطل" وهو يقاتل العشرات ويهزمهم بسهولة دون أن يُصاب، حالياً لا يزال هذا النوع من أفلام بوليوود موجوداً، ولكن ليس بنفس القدر سابقاً، إذ السينما الهندية تُنوّع بين الأكشن والرومانسية والفكاهية وغيرها.
الأسبوع الماضي شاهدتُ أحدث ما أنتجته سينما بوليوود، فيلم Motichoor Chaknachoor وهو فيلم اجتماعي للمخرج يباميترا بيسوال، أنتجه راجيف وكيران بهاتيا. يحكي عن قصة شاب هندي في سن الـ36 يعمل في مدينة دبي العاصمة الاقتصادية والسياحية لدولة الإمارات، رجع البطل إلى بلده للبحث عن زوجة، واللافت أن سن الـ36 اعتُبرت نقطة سلبيةً في ملف بطل الفيلم "نواز الدين صديقي"، باعتبار أنه تجاوز سن الزواج حسب تقاليد وأعراف مدينته في الهند!
وفيما يتعلق بالجنس الآخر، كانت بطلة الفيلم آثيا شيتي وهي ابنة الممثل الشهير سونيل شيتي، تبحث عن فارس أحلامٍ يعمل خارج البلاد في أوروبا أو أمريكا، إذ إن أمنيتها تقتصر على الانتقال خارج الهند، وكانت مولعةً بنشر صورها الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، تتنافس في ذلك مع زميلاتها ورفيقات دربها.
فيلم Motichoor Chaknachoor عبارة عن عالم من الفكاهة والمواقف الصعبة على حد سواء، عندما شاهدته قارنتُ بين واقع مجتمعاتنا والمجتمع الهندي الذي يعتبر أن الرجل في سن الـ36 تجاوز سن الزواج، بينما لا يعد هذا العمر مشكلةً في أغلب مجتمعاتنا باستثناء ضغوط الوالدين والأقربين. وفي الفيلم يتزوج البطلان دون موافقة الأهل في البداية نسبةً للفوارق الطبقية بين الشابة التي هي من أسرة ثرية، وبين الشاب الذي لا يملك شيئاً سوى أنه يعمل في دبي، تحدث بينهما كثير من الخلافات ويقتربان من الانفصال لكن في النهاية تتغلب الحكمة والعاطفة ليعودا إلى بعضهما البعض.
كانت هذه قصة بطلَي الفيلم، أما قصتي أنا والتي ربطتها مع فيلم بوليوود نسبة لأنني والبطل في نفس الفترة العمرية تقريباً، ولكن حكايتي ابتدأت منذ عام 2006 أي قبل 13 عاماً، آنذاك كنت طالباً جامعياً أدرس الإعلام ومع ذلك فكرتُ في مغادرة العزوبية ودخول عالم الحياة الزوجية، نعم كنت طالباً جامعياً ولكن كانت أوضاعي المادية جيّدة، نسبةً لأنني أدرس وأعمل في الوقت نفسه كما سبق أن ذكرت ذلك في مقالٍ آخر عن دراستي الجامعية بمدينة بربر السودانية.
ولمّا كان منزل العائلة في قبة الشيخ سلمان يتصف بكبر المساحة، شرعتُ في بناء ملحق صغير في العام ذاته ليكون مسكناً مؤقتاً، إذ لم أكن أفكر في تلك الفترة بمغادرة مسقط رأسي التي تجمع بين الريف والمدينة، فقد كان يستهويني العمل في قطاع الإذاعة والتلفزيون بولاية نهر النيل، وبالطبع كنت أحلم بالانتقال في مرحلةٍ ما إلى العاصمة الخرطوم، لكن كبداية لم يكن لديّ مانع من الإقامة في ولايتنا الحبيبة وفي منزل الأسرة الكبير بالتحديد.
مرّت الأيام سريعاً، وتخرّجت ببكالوريوس دراسات الاتصال بتقدير مذهل لم أكن أتوقعه نسبةً لعدم تفرغي للدراسة، فكافأت نفسي بالسفر إلى مدينة بحر دار الإثيوبية وكانت رحلة بريةً فوق الوصف لجمال الطبيعة الخلاّبة في موسم الأمطار خاصة في أقصى شرق السودان المتاخم لجارتنا إثيوبيا، أما بحر دار فقد سبق أن تحدثت عنها في مقالٍ أصبح مرجعاً لكثير من زوّار المدينة الساحرة، وقام بعض الشباب بترجمته إلى اللغة الأمهرية الرسمية هناك.
حتى تلك الفترة كان موضوع الزواج الشغل الشاغل لي، وبالفعل دخلت في عدة محاولات وارتباطات داخل البلاد وخارجها، لن أتحدث عن التفاصيل ولكن في النهاية لم تُكتب لي النهاية المرجوّة لحكمةٍ يعلمها الله، وكانت هناك العديد من الأسباب المنطقية المعقولة التي تفسر عدم نجاح أي من التجارب التي خضتها.
رويداً رويداً بدأت المفاهيم تتغير مع التقدم في العمر، فكثيرٌ من الشباب بعد التخرج في الجامعة تبدأ عندهم مرحلة جديدة، حتى وإن كانوا قد جربوا العمل أثناء سنوات الدراسة، فمثلاً أتذكّر أنني عندما بدأت الأوضاع الاقتصادية تسوء في السودان بعد انفصال الجنوب في عام 2011 تمسّكت أول الأمر بالبقاء في البلاد، وكنت ضد فكرة الهجرة والاغتراب بشكلٍ قاطعٍ عكستُ رأيي هذا لرفيق دربي الدكتور محمود حامد سويكت عندما التقيتُ به ذات أمسية في العام 2012 بمطعم جاد في شارع المطار النابض بالحياة، محمود كان في طريقه للعمل بالسعودية، صحيح أنني حاولت ما أمكن أن أثنيه عن قراره وذكّرته بحكاية صديقنا المشترك د. سامي حميدة، فقصته كانت ملهمة جداً.. قضى عدة سنوات من عمره المهني يعمل بمستشفى النوراب طبيباً عمومياً، حقق شهرةً واسعةً في منطقة شمال المتمة، ولكنه واجه تآمر أعداء النجاح من بعض قادة العمل الشعبي فترك لهم النوراب كلها، وبدأ مباشرةً في دراسة تخصص أمراض النساء والولادة الذي برع فيه عندما كان طبيباً عمومياً.
قابلتُ سامي حميدة بعد قرابة عامين من مغادرته النوراب فعرفت أنه اقترب من نيل شهادة التخصص، وبعد أن نالها بالفعل بلغت شهرته الآفاق في مدينة شندي وما حولها حتّى تفوق على أساتذته في التخصص وصار رئيساً لشعبة النساء والولادة بكلية الطب ليس بكفاءته ومهنيته فحسب، بل إنّ أهم صفاته التي يتميز بها الخلق الرفيع والتهذيب وحسن الإصغاء للمرضى دون تكبر ولا تذمر وهي الصفات التي حببّت فيه خلق الله، وهكذا اتضح لصديقنا سامي أن مغادرته لمستشفى النوراب مُغاضِباً كانت في صالحه إذ انطبقت عليه الآية الكريمة: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
أعلم أنني سرحت بكم أعزائي في تفاصيل ليس لديها صلة مباشرة بموضوعنا الرئيسي، ولكن أردت القول بأنني كنتُ أحث صديقي حامد على إعادة النظر في قرار الهجرة، إلا أنه لم يمضِ سوى عام واحد على حديثي له ووجدت نفسي أحزم حقائبي مغادراً للعمل في الخارج إلى يومنا هذا، واستدللت بهذه القصة الطويلة كي أقول إن عدة تحولات طرأت على مسيرة حياتي الشخصية، في الأعوام الأخيرة من بينها التريث في مسألة الزواج رغم الضغوط العائلية وضغوط الأصدقاء المقربين مثل د. سامي حميدة نفسه الذي قال لي ذات يوم: الزواج شر لابد منه، قلت له: إذا كنت تقول إنه شر.. فلا أرى أنه لابد منه.
في الفترة الأخيرة تكاثفت عليّ الضغوط الأسرية، ولكنني ما زلت متمسكاً برأيي وهو عدم اتخاذ قرار بالزواج أو أي قرار آخر بسبب الضغوط مهما كانت نوعية هذه الضغوط. وكذلك عدم القبول بفكرة الزواج عن طريق الترشيحات، مع أن البعض لا يرى غضاضة في توصيات الأهل وهي غير ملزمة بالنسبة للشخص إلا أن المسألة عندي مسألة مبدأ، فالتوصية أو الترشيح يمكن أن يدفعا الشخص إلى القبول على مضض بإنسانٍ قد لا يتفق معه أو يتحفظ عليه أو يمكن أن تسبب حساسيات أو مشاكل أخرى إذا تسرّب خبر الترشيح إلى أطراف أخرى وعلمت هذه الأطراف أنك تحفظّت على الشخصية المرشحة.
أدرك أن الكثير من المعارف والأصدقاء المقربين قد يتساءلون عن سبب تأخري في الزواج، فحسب رأيهم أنه لا شيء يعيق المرء طالما أن الوضع المادي جيّد، وأعلم كذلك أن البعض منهم قد يكون أساء الظن بشخصي انطلاقاً من كوني أعيش خارج البلاد، وأتجوّل أحياناً في دولٍ منفتحةٍ ليس لديها تحفظات على الحياة الشخصية كمجتمعنا المحافظ!
ولكن فلسفتي الخاصّة تقوم على فكرة ثابتة، هي أن القرارات المصيرية كقرار الزواج ينبغي اتخاذها باستقلاليةٍ تامةٍ بعيداً عن المجاملات والتوصيات مهما تأخرت الخطوة ومهما كانت درجة قرب الشخص الموصي، قد يقول قائل إن العمر يمضي ويمكن أن يستيقظ المرء ذات يومٍ ليجد نفسه وقد أصبح غير مرغوب فيه مثل صاحبنا بطل الفيلم الهندي الذي أوحت أسرة شريكة حياته لوالدته بأنهم تفضلوا وتكرموا بقبول ابنهم ذي الـ36 عاماً زوجاً لابنتهم. وهؤلاء نقول لهم إنه يجب أن نعيش هذه الحياة الدنيا بالثقة واليقين والإيمان بأن القادم أجمل وأفضل مهما تأخّر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.