في الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اندلعت الاحتجاجات بعديد من المدن الإيرانية، على رأسها مدن بهبهان وبندر عباس وشيراز وصولاً إلى العاصمة طهران؛ احتجاجاً على قرار زيادة أسعار المحروقات بنسبة 50%. وهو القرار الذي اتخذه المجلس الأعلى للاقتصاد وأعلنه الرئيس الإيراني حسن روحاني. وينص القرار على تحديد استخدام الوقود بالنسبة للسيارات الخاصة بمعدل 60 لتراً شهرياً بما يعادل (13 دولاراً) مقابل اللتر الواحد، وكل لتر زائد على حصة الـ60 لتراً سعره (26 دولاراً). هذا على أن يتم توزيع الفائدة المستخرجة على المواطنين في شكل نقود سائلة.
وعلى الرغم من أن الأسعار بعد زيادتها أقل بكثير من الأسعار العالمية، فإنها قوبلت برفض شعبي وتظاهرات شاملة لأغلب المدن الإيرانية. وقطع المتظاهرون الطرق مستخدمين سياراتهم، وهتفوا ضد نظام الملالي، وأحرقوا عدداً من البنوك والمحلات وأقسام الشرطة، وهو الأمر الذي استدعى تدخُّل الحرس الثوري الإيراني لقمع الاحتجاجات، مستخدماً العنف الذي أدى -بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش، إلى سقوط ما يزيد عاى مئة قتيل قنصاً من على أسطح المباني ومن الطائرات المروحية. هذه المعلومات هي ما تم التوصل إليه في ظل التعتيم ونقص المعلومات، لانقطاع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي عن إيران ما يزيد على ثلاثة أيام، وما زالت التظاهرات مستمرة حتى يوم كتابة هذه الكلمات.
وهنا علينا أن نتساءل: لماذا انفجر الوضع فجأة في إيران، على الرغم من أن الزيادة لا تقارَن بالأسعار العالمية، وعلى الرغم من أن القرار يمكن تبريره بأنه يصب في مصلحة الشعب الإيراني؟
ولمحاولة الإجابة عن السؤال، سوف نلجأ إلى عدد من التقارير الاستراتيجية عن إيران بخصوص العام الماضي (2018)، وهو العام المحوري الذي صنع المشهد الذي نراه الآن على الشاشات، بعد أن نمر على المشهدين السياسي والديني في جمهورية "ولاية الفقيه".
بلا غطاء: سقوط ولاية الفقيه
تعد أيدولوجية ولاية الفقيه حجر الأساس والمبرر الشرعي لبقاء الحكومة الإسلامية الإيرانية. وهذه هي ثمرة الاجتهاد الفقهي الذي توصل إليه آية الله الخميني وتم تأسيس إيران عليه بعد إسقاط حكم الشاه في 1979. لكن خلال الفترات الأخيرة منذ احتجاجات 2009 وصولاً إلى 2018، بدأت نظرية ولاية الفقيه في التآكل، وتحديداً داخل الحوزة حاضنة الفقه الشيعي فبمدينة قُم.
فتصاعدت عملية نقد ولاية الفقيه، وبدأت من مدينة قُم، التي شهدت ولادة بذرتها. عملية النقد بدأت على يد حُسين الشيرازي ابن المرجع صادق الشيرازي؛ وهو ما أدى إلى اعتقاله؛ ومن ثم الإفراج عنه إثر تظاهرات قامت بها "جماعة الشيرازيين". والجماعة الشيرازية منتشرة في مدينة قُم وبعدد من الدول الخارجية والعربية، وهي تحمل نظرية "شورى الفقهاء" بديلاً عن نظرية ولاية الفقيه التي انهارت، بحسب أدبيات الجماعة. وعلى الرغم من التضييق والملاحقات الأمنية التي تواجهها الجماعة من الدولة، فإنها ما زالت منتشرة ومشارِكة في الاحتجاجات دون أن يحاول النظام استئصالها، كي لا يمتد الخلاف إلى كل الجبهات المقاتلة داخل وخارج إيران، ويؤدي إلى صراع شيعي-شيعي في هذا الوقت المهم والحساس من عمر الجمهورية الإسلامية.
عندما عمت إيران موجة احتجاجات اقتصادية عام 2018، ظهرت تصريحات صادمة من عدد من المراجع المؤثرين مثل جواد آملي، الذي انتقد سياسة الدولة وانتشار الفساد والسيطرة على رؤوس الأموال التي تُنفق على الميليشيات الشيعية خارج إيران. لكن حدة النقد والشعور بالأزمة الخانقة كانا قد تسربا إلى قلب الحوزة؛ وهو ما أدى إلى تزايد الانتقادات في الأوساط الدينية، وأشعر النخبة الحاكمة بأن الحوزة بدأت بالانزلاق في مسارات علمانية، لرفضها ولاية الفقيه وقبولها للحكم القومي. ونتيجة لذلك بدأت تزداد حدة تعامل السياسيين مع رجال الدين من الحوزة، لمحاولة إعادة الحواضن الشعبية مرة أخرى إلى أدبيات الولاية بعد انصراف الطلبة والدارسين إلى رجال الدين المستقلين، وفقدان هيبة رجال حكم ولاية الفقيه نتيجة التصلب الأيديولوجي والفقهي والأزمات المتلاحقة.
ومن الناحية الشعبية، يمكننا أن نقول وبمنتهى الثقة، إن أفكار ولاية الفقيه قد انتهت وذهبت بلا رجعة، خصوصاً في المدن الكبيرة والعواصم، وما زاد الطين بلةً الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي بدأت تعصف بمدن الجنوب المحافِظة التي يعتمد عليها النظام كحواضن تابعة له. وعليه تبدو الهتافات اليوم ضد الخميني وخامنئي، وإحراق صورهما، والهتاف للشاه أمراً مبرراً للغاية.
وضع اقتصادي لا يطاق
انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران في مايو/أيار 2018، وعليه عادت العقوبات الاقتصادية على إيران مرة أخرى. هذه العقوبات تبلورت في حزمتين متواليتين. بدأت الأولى في أغسطس/آب، وطُبقت على مشتريات إيران من الدولار الأمريكي وتجارتها في الذهب والمعادن الخام والصلب والبرمجيات واستيراد الطائرات وقطع الغيار. والثانية في نوفمبر/تشرين الثاني، وطُبقت على مشتري النفط الخام الإيراني ومشتقاته والمتعاملين بالتحويلات المالية مع البنك المركزي الإيراني وعمليات شحن ونقل النفط الإيراني.
وبعيداً عن العقوبات الأمريكية، فالاقتصاد الإيراني نفسه يعاني معضلتين في غاية الصعوبة: أولاهما الفساد المؤثر على ضعف إنتاج القطاع الخاص، في مقابل توسع وتغلل قطاع المؤسسات والشركات شبه الحكومية التي يمتلكها كبار رجال الحرس الثوري الإيراني ورجال الدين، وهي مؤسسات تخضع لإعفاء ضريبي من ناحية ومن ناحية أخرى تحصل على إعانات ضخمة سنوياً تقدَّر بـ40 مليار دولار.
والمعضلة الأخرى هي التهريب، وهي المشكلة الرئيسية التي فُرض لأجلها قرار زيادة أسعار المحروقات، لتحجيمها. فظاهرة التهريب في إيران ممنهجة وليست عفوية، ويبلغ حجمها ما يزيد على 12 مليار دولار؛ وهو ما يسبب أضراراً ضخمة على قطاعات الإنتاج المختلف، بحسب تقرير جهات مكافحة التهريب الإيرانية.
كل هذه الأسباب أدت إلى زيادة نسبة التضخم بشكل غير مسبوق، حيث وصل خلال نهاية عام 2018 وبداية 2019 إلى 40%؛ وهو ما أدى بشكل مباشر إلى ارتفاع أسعار الغذاء بمعدلات زاد بعضها على 60%، وارتفاع أسعار السكن في العاصمة طهران بمقدار 90%.
وانخفاض قيمة العملة المحلية في مقابل الدولار، حيث سجل الدولار الواحد 19 ألف تومان في بداية المرحلة الأولى من العقوبات، حتى استقر عند 11 ألف تومان بعد أن كانت تقدَّر بـ5 آلاف فقط في عامي 2016 و2017، لتسجل عندها قيم عجز الموازنة العامة للدولة تراجعاً، هو الأعلى منذ عشر سنوات.
بوضع كل هذه العوامل جنباً إلى جنب تتضح لنا الصورة أكثر وأكثر، ونخرج بحقيقةٍ مفادها أن النظام الإيراني يواجه أزمة عميقة وحادة للغاية، تضرب بجذورها في قلب منظومة الحكم وفي النسيج الاجتماعي والاقتصادي للشعب الإيراني، وأن ما بعدها لن يكون كما قبلها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.