مع نهاية دور مجموعات كأس العالم عام 1966، قررت مجموعات من جماهير ميدلزبره الزحف نحو ملعب الجوديسون بارك في مدينة ليفربول من أجل حضور مباراة فريقهم في ربع نهائي المونديال. المنتخب الإنجليزي يلعب على ملعب ويمبلي هنالك في لندن، لكن منتخب كوريا الشمالية الذي دعمته مدينة ميدلزبره في المحفل الكرويّ الأكبر كان يلعب في ليفربول.
لم يكن هذا هو الوضع بالتأكيد حينما صدم منتخب كوريا الشمالية المسؤولين عن تنظيم كأس العالم عندما أمّن قصار القامة الموهوبون طريقهم إلى كأس العالم بهزيمة المنتخب الأسترالي ٩-٢ بمجموع المباراتين في المرحلة الأخيرة المؤهلة لكأس العالم والتي لعبت في كمبوديا.
صعود الكوريين إلى كأس العالم أطلق العنان للاحتفالات في بيونغ يانغ، لكنه وضع الإنجليز في مأزق كاد يكلفهم تنظيم البطولة.
قبل حوالي ١٦ عاماً من مونديال ١٩٦٦ كانت إنجلترا في قلب قوات التحالف الدولي الذي دعم كوريا الجنوبية في حربها ضد الجارة الشمالية المدعومة من الاتحاد السوفيتي. ثلاثة أعوام من حرب كانت الشرارة الأولى للحرب الباردة، أزهقت خلالها أرواح من كل الأطراف المتنازعة. خسرت إنجلترا أكثر من ألف جندي خلال تلك المعارك بينما خسرت كوريا الشمالية ما يقارب المليون مواطن ناهيك عن الدمار الذي حل ببنيتها التحتية.
لم يلتئم جرح الإنجليز من الحرب الكورية ولم يعترفوا بدولة كوريا الشمالية لكن تأهل المنتخب الكوري الشمالي لبطولة كأس العالم كان يعني أن إنجلترا ستجبر على الاعتراف ومن ثم استقبال بعثة كوريا الشمالية بحفاوة وترحاب. فكر الإنجليز في رفض منح تأشيرات دخول للكوريين، لكن كان رد الاتحاد الدولي لكرة القدم واضحاً بأن أي إجراء من طرف الإنجليز يعيق منتخب كوريا الشمالية من المشاركة فى البطولة سيعني سحب التنظيم من إنجلترا وإسناده إلى دولة أخرى.
يتأزم الموقف الإنجليزي السياسي يوماً بعد يوم، فقررت اللجنة المنظمة للبطولة اتخاذ كل الإجراءات التي تقلل من التمثيل الدبلوماسي الكوري على الأراضي الإنجليزية أثناء كأس العالم. قامت إنجلترا باعتماد اسم "كوريا الشمالية" بدلاً من الاسم الرسمي للدولة "الجمهورية الديمقراطية الشعبية الكورية". بالإضافة إلى تحدي بروتوكول البطولة بعدم عزف الأناشيد الوطنية للفرق المشاركة قبل المباريات إلا قبل المباراة الافتتاحية والتي كانت ستجمع إنجلترا بأوروغواي وقبل المباراة النهائية فقط. وهم متيقنون أن المغامرة الكورية لن تصل أبداً إلى ما هو أبعد من دور المجموعات.
كان تخمين الإنجليز منطقياً فالفريق الكوري غير المعروف علي المستوى العالمي وصل إلى المونديال للمرة الأولى في تاريخه وأوقعته القرعة مع بطل العالم مرتين المنتخب الإيطالي إضافة إلى منتخب الاتحاد السوفيتي بطل أوروبا عام ١٩٦٠ ومنتخب تشيلي الحاصل على المركز الثالث في كأس العالم ١٩٦٢.
كل التوقعات كانت تشير إلى أن الفريق الكوري سيودع البطولة مبكراً بثلاث هزائم في مرحلة المجموعات خاصة مع الهجوم الجماهيري المتوقع عليهم، فذكريات حرب كوريا ما زالت في الأذهان.
وصلت بعثة الكوريين إلى لندن ومنها انتقلوا بالقطار إلى مدينة ميدلزبره حيث ستلعب كوريا الشمالية مبارياتها في المجموعة على ملعب أيرسوم بارك المعقل القديم لفريق المدينة ميدلزبره..
كانت مدينة ميدلزبره واحدة من ٧ مدن إنجليزية استضافت البطولة لكنها كانت الأكثر سعادة باستضافة مباريات المونديال خاصة مع التراجع الكارثي في أداء فريقهم المحلي والذي هبط إلى الدرجة الثالثة للمرة الأولى في تاريخه قبل البطولة بأيام قليلة. وكان الحماس الجماهيري كبيراً لاستضافة مباريات المجموعة الرابعة من البطولة.
استقبل عمدة مدينة ميدلزبره البعثة الكورية وكذلك رحب بهم سكان المدينة الذين جاؤوا لمتابعة تدريبات مجموعة من اللاعبين قصار القامة مندهشين من وصول كرة القدم إلى بلادهم البعيدة. لكنهم أبدوا إعجاباً بأدائهم خلال التدريبات وانتظروا مشاهدتهم في الملعب مع انطلاق البطولة والتي لعب فيها الكوريون مباراتهم الأولى أمام منتخب الاتحاد السوفيتي المتمرس الذي حسمت خبرة لاعبيه وقوتهم البدنية نتيجة المباراة لصالحهم بثلاثية نظيفة. لكن كرة القدم التي قدمها الكوريون كسرت الحاجز النفسي بينهم وبين الجمهور الإنجليزي وهدمت أول حجر في جدار مرتفع بنته الحرب.
في الجولة الثانية كان الكوريون على موعد مع تحديد مصيرهم في البطولة فإما الهزيمة والخروج المبكر أو تحقيق نتيجة إيجابية والحفاظ على آمالهم في التأهل للدور الثاني. لكن مواجهة منتخب تشيلي ليست بالهينة خاصة مع هزيمة المنتخب اللاتيني في المباراة الأولى أمام إيطاليا.
بدأت تشيلي المباراة بقوة مستغلين الفارق البدني لصالحهم مع محاولات الكوريين لفرض سيطرتهم على اللعب. لكن العنف من جانب لاعبي المنتخب التشيلي أثار حفيظة الجماهير الحاضرة في ملعب المباراة والتي بدأت تشجع المنتخب الكوري بحرارة رغم استقبالهم هدفاً من ركلة جزاء مع انتصاف الشوط الأول. لكن محاولات الكوريين لم تنقطع لإدراك التعادل رغم الأداء العنيف من لاعبي تشيلي. ومع مرور الدقائق وتوالي الهجمات الكورية كانت الجماهير تساند وتدعم الفريق الكوري وتهتف لكوريا حتى نجح لاعب وسط الفريق الكوري باك سونغ زين من إحراز هدف التعادل قبيل نهاية اللقاء لتشتعل المدرجات احتفالاً بهدف الكوريين الذي حافظ على آمالهم في تحقيق المعجزة والوصول للدور ربع النهائي.
"الجماهير تحتفل بالهدف الكوري الذي طال انتظاره.. هؤلاء الجماهير لم تشجع ميدلزبره بهذه الحرارة منذ أعوام طويلة"
. معلق المباراة الإنجليزي
بعد المباراة نزل أحد أفراد البحرية الإنجليزية إلى أرض الملعب لتحية اللاعبين الكوريين على أدائهم خلال المباراة. هذه المصافحة لم تكن لتحدث قبل 16 عاماً حين كانت البحرية الإنجليزية تستهدف الأراضي الكورية أثناء الحرب.
بعد المباراة تحول لاعبو الفريق الكوري إلى أبطال للمدينة فتوجهت الجماهير في اليوم التالي إلى فندق الفريق حاملين أعلام كوريا للاحتفال مع اللاعبين بالتعادل المستحق وبدأت الجماهير في التقاط الصور مع لاعبي كوريا والحصول على توقيع اللاعبين ودعمهم قبل المباراة الختامية للمجموعة أمام إيطاليا.
كانت إيطاليا قد جمعت نقطتين فقط في المجموعة بعد أن تلقت هزيمة بهدف نظيف أمام الاتحاد السوفيتي في المباراة الثانية (كان الفوز حينها بنقطتين فقط). وكان الإيطاليون في حاجة إلى الفوز أو التعادل مع عدم فوز تشيلي لضمان التأهل إلى الدور الثاني مع الاتحاد السوفيتي. أما الكوريون فلا بديل لهم عن الفوز إذا أرادوا الوصول إلى الدور الثاني وإسعاد جماهير ميدلزبره التي ملأت جنبات الملعب لتشجيع الكوريين في المباراة التي تلقت متابعة هائلة في كوريا رغم أن المباراة لعبت في الثالثة صباحاً بالتوقيت المحلي.
كما كان متوقعاً بدأ الفريق الإيطالي المباراة بقوة كبيرة على أمل إحراز هدف مبكر يؤمن لهم نتيجة المباراة والتأهل إلى الدور الثاني. لكن كل محاولات نجوم الفريق ريفيرا ومازولا وجدت حائط صد كورياً منيعاً من المدافعين ومن خلفهم حارس مرماهم المتألق لي شانج مويانج الذين تحملوا الضغط الإيطالي المبكر على فريقهم. لكن في الدقيقة الـ25 قام قائد الفريق الإيطالي بولجاريللي بعرقلة أحد لاعبي كوريا في لقطة كانت نقطة التحول في المباراة. لأن بولجاريللي سيتعرض للإصابة نتيجة تدخله ويجبر على مغادرة الملعب ولحسن حظ الكوريين لم تكن التغييرات قد دخلت نظام كرة القدم بعد مما أجبر المنتخب الإيطالي على استكمال المباراة بعشرة لاعبين.
"صنعنا عديد الهجمات الخطرة في بداية المباراة لكن الإصابة التي تعرض لها بوجاريللي أثرت على أدائنا. هذا ليس عذراً بكل تأكيد فإيطاليا قادرة على هزيمة كوريا حتى بعشرة لاعبين ولكن القلق والخوف من الخسارة أثر على أدائنا في المباراة"
. نجم إيطاليا في الستينيات ساندرو مازولا
منذ تلك اللحظة سيطر الكوريون على المباراة وزاد معهم تفاعل الجماهير الحاضرة في ملعب المباراة والتي أيقنت أن الكوريين يحتاجون هدفاً واحداً فقط لكتابة التاريخ على الأراضي الإنجليزية.
قبل نهاية الشوط الأول بدقائق قليلة استلم جناح الفريق الكوري "باك دو إك " الكرة على مشارف منطقة جزاء إيطاليا ليطلق تصويبة صاروخية فشل الحارس الإيطالي في التعامل معها لتنطلق الأفراح في ملعب المباراة وفي الأراضي الكورية الشمالية. أحرزت كوريا الشمالية الهدف الذي تحتاجه لإقصاء إيطاليا والتأهل للدور الثاني وكتابة التاريخ.
صمد الكوريون في الشوط الثاني وأوقفوا هجمات الإيطاليين الذين علموا أنهم سيلاحقون بهذه النتيجة طوال حياتهم إذا فشلوا في إحراز هدف التعادل. لكن الكوريين قاتلوا داخل الملعب حتى أعلن الحكم الفرنسي بيير شوينتي صافرة النهاية التي أرسلت كوريا إلى المجد الأبدي وألحقت العار بالفريق الإيطالي.
انطلقت الاحتفالات في غرف ملابس الفريق الكوري بعد المباراة والتي استقبلت عمدة مدينة ميدلزبره الذي هنأ اللاعبين الكوريين على أدائهم ناقلاً لهم تحية جماهير مدينة ميدلزبره متمنياً لهم التوفيق في مباراة ربع النهائي.
كانت سعادة الكوريين غامرة بالإنجاز الذي حققه الفريق لكن هذه السعادة عكرها جدول مباريات البطولة والذي سيواجه بموجبه الفريق الكوري منتخب البرتغال بعيداً عن ميدلزبره هناك في ملعب الجوديسون بارك في ليفربول. مما يعني أن الفريق سيلعب دون جمهور مدينة ميدلزبره الذين لعبوا دوراً كبيراً في هذه الإنجاز الكوري.
لكن منذ اليوم الأول أعلنت جماهير ميدلزبره أنها ستتحرك خلف فريق كوريا الشمالية إلى مدينة ليفربول التي استقبلت الكوريين أفضل استقبال وأعلنوا دعمهم للفريق الكوري وحضروا بكثافة في ملعب جوديسون بارك إلى جوار جماهير ميدلزبره لتشجيع المنتخب الكوري.
لم يخيب الكوريون طموح جمهورهم الحاضر في الملعب فقسوا على البرتغاليين بثلاثية نظيفة وأداء رائع بعد 25 دقيقة فقط من انطلاق المباراة. أداء الكوريين الرائع هتفت له الجماهير في الملعب، لكن البرتغال امتلكت في هذا الوقت أفضل لاعبي المونديال أوزيبيو والذي كان له رأي آخر.
أحرز أوزيبيو هدفين قبل نهاية الشوط الأول وهدفين آخرين في الدقائق الأولى من الشوط الثاني كما صنع الهدف الخامس لفريقه والذي كتب نهاية مغامرة الكوريين في البطولة.
رغم حزن لاعبي منتخب كوريا بعد إهدار فوز محقق إلا أن تحية الجماهير لهم بعد نهاية المباراة وفي اليوم التالي أنست الكوريين خروجهم من كأس العالم بعد أن عاشوا أياماً تاريخية مع الجمهور الإنجليزي الذي قدم لهم كل الدعم خلال البطولة.
بعد أكثر من 50 عاماً من نهاية المونديال ما زالت العلاقات بين كوريا الشمالية ومدينة ميدلزبره قائمة وفي عام 2002 قام نادي ميدلزبره بدعوة أفراد الفريق الكوري الشمالي المشارك في بطولة كأس العالم 1966، لحضور مباراة الفريق ضد ليدز يونايتد وتم تكريم اللاعبين قبل المباراة من قبل إدارة النادي والجماهير الحاضرة في الملعب.
"يا صديقي العزيز هيا نغني معاً.. رغم أنّا ولدنا في أماكن مختلفة ورغم تغير الوقت والمكان.. صداقتنا لن تتغير أبداً"
.أغنية كورية
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.