أعتقد أنه لا يمكن بناء فهم حقيقي وعميق لمجتمع مثل "كايرو زووم" وما يعبر عنه من قيم وأخلاقيات وثقافة أو فهم لماذا قد يستدعي أحدهم فرقة تعرٍّ روسية في حفل تخرج في المدرسة الثانوية، أو يحتفل بالهالوين، دونما اللجوء إلى فكرة أصيلة تشرح بانسجام ودون تعارضات وتناقضات داخلية كثيرة البعد، البعد الاقتصادي جنباً إلى جنب مع البعد الهوياتي. وأؤمن أن النظرية النيو-جرامشية إذا أمكن القول تفي بالغرض وتعطينا فكرة صلبة يمكن الاستناد إليها في تحليلنا.
تقوم فكرة "الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود" في الفكر اليساريّ على أنها انعكاس للطبقة الحاكمة العالمية ولاعب أساسي في الرأسمالية العالمية، كما يقول كل من ويليام روبنسون وجيري هاريس، ويمكن القول إنها شريحة اجتماعية تتحكم في مصادر وأدوات عابرة للحدود مثل الشركات العابرة للقارات والمنظمات السياسية العالمية ومنظمات التجارة الدولية إلى آخر هذا النمط من المؤسسات.
وتتكون هذه الطبقة من أربعة مكونات رئيسية وهي الشركات وممثلوها المحليون، الجهاز البيروقراطي والمسؤولون "الدولة"، التقنيون العالميون "Globalizing Professionals" وأخيراً النخبة المستهلكة، وتتمتع هذه الطبقة بصفتين جوهريتين وهما: أولاً أنها تعمل كل ما بوسعها من أجل تحقيق والحفاظ على مصالحها سواء من خلال جماعات الضغط أو اللوبيات، وثانياً أن الدولة القومية الحديثة ليس لديها سيطرة كبيرة عليها.
ما علاقة كل هذا بحفلات "كايرو زووم" وحفلات التعري إلى آخر هذه الأنماط الاحتفالية؟
أنا أخبرك، الأمر برمته أن الموضوع مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج الثقافي الهوياتي والحالة أو الوضع الاقتصادي، وفي النقاط القادمة سأوضح كيف يمكننا بناء تفسير قوي لهذه الظواهر:
(أ) المصالح الاقتصادية لأعضاء هذه الطبقة الرأسمالية ترتبط على نحو متزايد بالصعيد العالمي بدلاً من أن تكون محلية ووطنية في الأصل، وبما أن ممتلكات أصحاب رأس المال أصبحت أكثر عولمة من ذي قبل من خلال سرعة الحركة غير المسبوقة لرأس المال الذي أحدثته التكنولوجيات الجديدة والاقتصاد السياسي العالمي الجديد، فشركات هؤلاء تتجه إلى العولمة من حيث ثلاثة معايير هي: التوجه نحو الاستثمار الأجنبي وتعاونية المواطنين والرؤية العالمية.
وهذه الطبقة في نهاية المطاف ليست أحادية البُعد بل طبقة اجتماعية لها منتج ثقافي يعبر عن هويتها، ولكن منتجاتهم الفكرية تلك تخدم مصالح العولمة التي هي مصالحهم أيضاً بشكل أو بآخر بدلاً من أن تخدم الثقافة المحلية وتصب فيها.
وتسعى هذه المنتجات بشتى الطرق إلى إضفاء الطابع المحلي على رأس المال الذي يعبر عنه في أيديولوجيات الليبرالية الجديدة في السوق الحرة وثقافة الأيديولوجية الاستهلاكية، ويأتي ذلك مباشرة من حتمية النمو التي يدفعها المساهمون والتي تكمن وراء عولمة الاقتصاد العالمي والصعوبة المتزايدة في تعزيز قيمة المساهمين في الشركات المحلية البحتة.
باختصار وبلغة سهلة وفي الحالة المصرية تحديداً، توجد طبقة اجتماعية مصالحها الاقتصادية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالسوق العالمية وليس السوق الوطنية المصرية، هذه الطبقة علاقتها بمصر علاقة رسمية فقط، أي أنهم مصريون في الوثائق الرسمية لكن لا علاقة لهم بالغالبية العظمى من المصريين سواء اقتصادياً أو اجتماعياً، حيث إنهم لا يحتاجون للخروج من الكومباوندات المغلقة التي يوجد بداخلها كل الخدمات ووسائل الراحة ولا يحتاجون للخروج لإنهاء بعض الأوراق الرسمية فكل شيء يمكن إنهاؤه بمكالمة واحدة.
هذه الطبقة تقوم أحياناً كثيرة بمحاولات إنتاج ثقافي غالباً ما تكون أقرب إلى المسخ، فترى حفلات مقامة على الطراز الأوروبي في شواطئ مصرية يتخللها فقرة لمزمار شعبي أو لراقصة محلية، في شيء أقرب للهزل منه إلى الترفيه، ولأن البرجوازية المصرية منحطة للغاية وأولئك الذين أدت مواقعهم في شبكات المصالح والفساد المصرية إلى الترقي وشغل مكان في هذه الطبقة وهم ليسوا أبناءً لها ولا ينتمون إليها بأي حال من الأحوال ستحدث فضائح على شاكلة عدم التفريق بين حفلة توديع العزوبية وحفل التخرج ويتم استدعاء متعريات لطلاب في الثانوية العامة في حدث يكسر كل الأعراف والتقاليد وحتى القانون دونما حساب أو رادع.
(ب) يتمتع أعضاء هذه الطبقة بأعين موجهة نحو الخارج وليست موجهة نحو الداخل بشأن معظم القضايا الاقتصادية والسياسية وقضايا الأيديولوجيا الثقافية.
إن تزايد الشركات العابرة للحدود والتركيز المؤسسي الدولي على التجارة الحرة والتحول من الاستعاضة عن الواردات إلى استراتيجيات تشجيع الصادرات في معظم البلدان النامية منذ الثمانينيات كان مدفوعاً بأعضاء هذه الطبقة الذين يعملون من خلال الوكالات الحكومية والأحزاب السياسية ومنظمات الرأي النخبوية ووسائط الإعلام.
القصد أن هذه الطبقة علاقتها بمصر علاقة رسمية فقط، أي أنهم مصريون في الوثائق الرسمية لكن لا علاقة لهم بالغالبية العظمى من المصريين سواء اقتصادياً أو اجتماعياً، أي أنهم لم يخوضوا الحالة المصرية ولم يتعرفوا عليها، والكلام هنا عن أبناء الجيل الثالث والثاني من هذه الطبقة، فهم يفكرون بالمنظور الغربي، عقلهم تمت برمجته غربياً، ووجدانهم ينتمي إلى هناك لا إلى هنا، فقد طوروا وبنوا هوية تستند إلى قيم وثقافة مختلفة تماماً عن الثقافة المصرية بطيفها الواسع، فهم يأخذون المنظور الغربي في كل القضايا المطروحة ويتفاعلون من خلاله، على سبيل، الحديث هنا عن الذين كانوا يتحدثون عن الانتخابات الأمريكية الماضية وكأنهم من مواليد مانهاتن!
(ج) يميل أعضاء هذه الطبقة إلى تشارك نمط حياة واحد، وهو نمط يمكن وسمه بالعالمي، فلا غنى عن التعليم العالي في أكبر الجامعات وأعرقها، ولا بد من استهلاك أفخم السلع والخدمات الفاخرة والنوادي والمطاعم الحصرية والمنتجعات الفائقة التكلفة في جميع القارات خاصة للسفر والترفيه، ما يعني زيادة العزل السكني لفاحشي الثراء قاطني المجمعات السكنية ذات الأسوار العالية والتي يتم مراقبتها من خلال حراس أمن مسلحين وكاميرات مراقبة متطورة، من لوس أنجلوس إلى موسكو، من مكسيكو سيتي إلى بكين، من إسطنبول إلى مومباي.
وبما أن الحفلات الصاخبة التي تستمر حتى الصباح إحدى سمات نمط الحياة العالمي الحالي فإن هذه الحفلات ستستمر وأي محاولة وعظ ديني أو إرشاد أخلاقيّ لن تؤتي أكلها لأن المنظومة الأخلاقية لديهم لا تتقاطع مع هذا المربع بالأساس.
ولأنني كما أشرت في البداية إلى أن نفوذ الدولة وسيطرتها على هذه الطبقة يكاد يكون معدوماً، فإن التناقض الصارخ بين نمط الحياة التي تعيشه هذه الطبقة بما فيه من مخالفة لخطاب الدولة الديني والأخلاقي ومخالفة لدعوات الحكومة للتقشف يمكن فهمه الآن، بأن هذه الطبقة لا تنتمي بأي شكل حقيقي لجمهورية مصر العربية.
(د) وأخيراً، يسعى أعضاء هذه الطبقة إلى عرض أنفسهم كمواطنين عالميين متجاوزين للقومية الضيقة، فضلاً عن أماكنهم و/أو بلدان ميلادهم، أي أنهم غير منتمين ثقافياً واجتماعياً إلى مكان بعينه ولكنهم منتمون إلى العالم أجمع والثقافة الواسعة التي تسع الجميع، لكنهم في حقيقة الأمر ينتمون إلى حيث توجد الأموال.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.