شاركت في حلقة تلفزيونية، على تلفزيون العربي، وكان النقاش حول رجم الزاني، وهل هو حد أم تعزير أم منسوخ لا يعمل به؟ وقلت رأيي الذي قرأت فيه وتوسعت في قراءتي له، وهو أن الرجم تعزير وليس حداً، وأن الرأي القائل بنسخه هو رأي قوي ووجيه، وبينت أدلتي عليه وقتها، وبما أن طبيعة الحلقات التلفزيونية لها وضع خاص، من حيث قصر الوقت، ولذا يضطر المتكلم إلى الاختصار، ولا يمكنه أن يقول كل ما لديه في الموضوع، وبخاصة في موضوع مهم وحساس كقضية رجم الزناة، وكنت عكفت على كتابة كتاب منذ سنوات حول الموضوع، تناولت فيه نصوصاً من السنة النبوية المطهرة، وهل ثبت أن طبق في عهد الخلفاء الراشدين أم لا؟ وكذلك التناول الفقهي في كتب التراث والمعاصرين له، وهذا ما سوف أتناوله في مقالات متتالية إن شاء الله على حلقات، متناولاً بقدر الإمكان ما تتسع له مساحة مقالات على صحف سيارة على الإنترنت.
إن موضوع الحدود في الإسلام، وبخاصة حد الزنا للمحصن، وما يتعلق بعقوبته، وفي القلب منه: عقوبة الرجم. فهو موضوع ذو إشكالات ونقاشات فقهية من قديم، وهي ليست وليدة هذه الأيام، بل هي إشكالات طرحت من قبل لدى الفقهاء، وهي تبدأ منذ عصر الصحابة، ثم في العصور التي تلتها، وزاد حولها النقاش في عصرنا الحديث. ولعل حادثة صعود عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر وحديثه عن الرجم، وهي كالتالي:
عن ابن عباس قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال هشيم مرة: خطبنا فحمد الله تعالى وأثنى عليه، فذكر الرجم فقال: لا تخدعن عنه، فإنه حد من حدود الله تعالى، ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رجم، ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون: زاد عمر في كتاب الله عز وجل ما ليس منه، لكتبته في ناحية من المصحف، شهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
هذه الحادثة تدل على أن النقاش دار في عهد الصحابة عن الرجم، ودار النقاش حول إنكاره، وعدم وجوده في القرآن الكريم، وإن قال بعض من يقولون بالرجم بأنه كان استشرافاً من عمر رضي الله عنه، ولكن الأقرب للعقل: أن النقاش دار حوله، فقال خطبته التي ذكرناها.
وكذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن أوفى: أنه سئل عن الرجم؟ هل كان بعد سورة النور أو قبلها؟ فقال: لا أدري. فالسؤال عن الرجم هنا، وعن توقيته، وهل قبل سورة النور، فيكون قد نسخ الجلد، أم أن السورة نزلت بعد الرجم فيكون منسوخاً بالجلد، كل هذا يدل على أن النقاش دائر بين الصحابة حوله.
وفي العصور التي تلت الصحابة كذلك، كما نرى في معظم كتب التفسير والفقه من ذكر رأي من عارضوا الرجم، والرد عليهم وعلى أدلتهم، ولذا رأينا الإمام ابن قتيبة في معرض رده على الخوارج في رفضهم للرجم، بحجة قوله تعالى: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) النساء: 25، فقال: (إن المحصنات لو كن في هذا الموضع ذوات الأزواج لكان ما ذهبوا إليه صحيحاَ، ولزمت به الحجة وليس المحصنات ههنا إلا الحرائر).
ورأينا إماماً كابن العربي عند تفسير قوله تعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً) النساء: 15. قال: هذه معضلة في الآيات لم أجد من يعرفها، ولعل الله أن يعين على علمها. والآية لها علاقة بحد الزنا وعقوبته، وهل نسخت هذه العقوبة أم لا؟ وبم نسخت؟ ومتى؟ أم أن الآية خاصة بالسحاق بين النساء؟
والإمام العز بن عبدالسلام عند حديثه عن مفاسد المحرمات، تكلم عن مفاسد الزنا، ثم تكلم عن العقوبات التي يعاقب بها الزاني غير المحصن، وعند حديثه عن رجم الزاني المحصن فقال: (ولم أقف على المفسدة المقتضية لرجم الثيب الزاني، وقد قيل فيها ما لا أرتضيه).
وفي عام 1954م عقدت ندوة فقهية، في مجلة (لواء الإسلام) للنقاش حول الرجم، واختلفت وجهات نظر العلماء في هذه الندوة حول الرجم، بين قائل بأنه حد، وبين قائل بأنه تعزير، وقائل بأنه حرابة، وممن رفضوا الرجم كحد في هذه الندوة، الشيخ عبدالوهاب خلاف، بحضور عدد من العلماء الكبار.
وفي عام 1972م قام بإعلان رأيه الشيخ محمد أبوزهرة برفض الرجم حداً، في مؤتمر في ليبيا، بحضور كوكبة من علماء الأمة، كما ذكر ذلك الشيخ القرضاوي في مذكراته، وسوف نأتي لتفاصيل هاتين الندوتين عند الحديث عنهما في مقالاتنا القادمة، إن شاء الله، عند عرض هذا الرأي وأدلته.
كل ما سبق، يبين لنا بوضوح أن النقاش حول الرجم كعقوبة للزاني المحصن، ظل موضع حديث في كتب الفقهاء، وندواتهم، وكتبهم، ومقالاتهم، ولم نكن بدعاً من الناس والباحثين بالنقاش والحديث حوله، كما يزعم البعض.
وحد الرجم عند القائلين به، من يتأمل في الموضوع سيجد عدة إشكالات أصولية كبيرة، ولذا عليهم أن يقوموا بحلها، مثل:
حد الرجم ثبت بالسنة النبوية، ومعظم هذه الأحاديث آحاد، أو كما يزعمون بأنها متواترة تواتراً معنوياً، وهنا مبحث مهم يجب أن ينتهوا منه، وهو: هل ينسخ الآحاد المتواتر؟ فالقرآن تحدث عن الجلد، والسنة تحدثت عن الرجم، والسنة آحاد، حتى ما تواتر منها، هل يصل لدرجة تواتر القرآن؟ وما قول الأصوليين في قضية نسخ القرآن بالسنة، وهو موضع خلاف كبير بينهم، ومهم جداً في موضوعنا.
كذلك قضية الحدود في الإسلام، وبم تثبت، ونعني هنا الثبوت لا الإثبات، فهل تثبت الحدود بأحاديث آحاد أم لا؟ ومعروف رأي المذهب الحنفي أنه يشترط في ذلك أن يكون الحد مثبتاً بالقرآن، أو بسنة متواترة.
في الرجم وإثباته، استدل القائلون به بأن هناك آية تسمى آية الرجم، وأنها منسوخة لفظا باقية حكماً، وهنا موضوع كبير نوقش من قبل العلماء والأصوليين، حول هل يوجد منسوخ تلاوة، آيات نسخت تلاوتها وبقيت أحكامها؟ وتفاصيل أخرى أصولية مهمة، عند الإجابة عنها سنجد أن ما قال به الفقهاء فيها، خالفوه في قضية الرجم.
إشكالات عند الفقهاء القائلين بالرجم:
بل هناك إشكالات بين الفقهاء الذين قالوا بالرجم، وهم جمهور الفقهاء، ففي قضية الرجم عدة مسائل محيرة، ومتناقضة في آن واحد، تجعل الفقيه والباحث يقف أمامها مشدوهاً، بل حائراً، فمن هذه الإشكالات مثلاً:
1 ـ قضية التفريق بين المحصن وغير المحصن في الحد، والتشديد في عقوبة المحصن، وهي الرجم، ولا نجد علة مقنعة في التشديد في هذه العقوبة، حتى قال العز بن عبدالسلام بعد حديثه عن مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر، فقال عن حد الزنا: (وأما حد الزنا: فزاجر عن مفاسد الزنا، وعما فيه من مفاسد اختلاط المياه، واشتباه الأنساب وإرغام أنف العصبات والأقارب، ولم يفوِّضه الشرع إلى من تأذى به من أولياء المزني بها، لأنه لو فوضه إليهم لما استوفوه غالباً خوفاً من العار والافتضاح)، ثم عند حديثه عن المفسدة المقتضية للرجم بقوله الذي نقلناه منذ قليل، فقال: (ولم أقف على المفسدة المقتضية لرجم الثيب الزاني، وقد قيل فيها ما لا أرتضيه) ولعل ابن عبدالسلام يقصد هنا ما يذكره بعض الفقهاء من أن السبب في ذلك: أن المحصن عنده الزوجة التي تحصنه من فعل الزنا، وهو أمر مردود عليه، فهل عقاب السارق الغني أشد من السارق الفقير، وهل القاتل الذي لا سبب مهم وراء قتله يشدد عليه العقوبة عن غيره؟ وهكذا في بقية الحدود.
2 ـ وضع المرأة في الرجم عند إقامة حد عليها يختلف عن وضع الرجل، فالرجل يترك، فلا يحفر له، ولا يوثق، وإذا ولى هارباً عند إقامة الحد عليه: يترك، ويخلى سبيله، ولا يتعقبه الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم في شأن ماعز عند رجمه عندما أزلفته الحجارة فولى هارباً، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلا تركتموه.
أما في حالة المرأة فيحفر لها في الأرض، حتى يغطى إلى صدرها، مما يعني استحالة أن تهرب، حتى لو تراجعت، وإن برر الفقهاء ذلك بأن الحفر لها من باب سترها حتى لا تتكشف، فهنا تعطى فرصة للرجل للهرب، وهو أقدر عليه، والتراجع عن أقواله، بينما المرأة التي لا تقوى عليه تحرم من هذه الفرصة، من مراجعة نفسها!
3 ـ من الأمور التي يقف أمامها عقل الفقيه المتأمل في قضية الرجم: مسألة الإحصان والخلاف الشديد فيها، بل والتناقض أيضاً في التفريق بين المتماثلين، والجمع بين المتناقضين. من ذلك: حكم كثير من الفقهاء بأن المتزوج بالكتابية ليس محصناً، وهو مذهب الأحناف، مستدلين على ذلك بأحاديث منها: يقول أبويوسف في الخراج: (وقد اختلف أصحابنا في الإحصان، فقال بعضهم: لا يكون الحر المسلم محصناً إلا بحرة مسلمة قد دخل بها (في نكاح صحيح)، ولا يكون على الذمية من أهل الكتاب وغيرهم إحصان). وهو مذهب المالكية. وقول الشعبي، وعطاء، ومجاهد، والنخعي، والثوري.
ومعنى هذا أن مسلماً لو تزوج أربعاً من أهل الكتاب، ثم زنى، لا يرجم عند القائلين بالرجم حداً، لأنه غير محصن، فلو ذهب مسلم إلى دولة أوروبية تبيح التعدد وراح ينتقي ويختار من حسناوات الغرب وشقراواته، فاختار أربعاً منهن، فهو يعد عند هؤلاء الفقهاء غير محصن، رغم أن علة الإحصان هي وجود فرج يحصنه، ويمنعه من الزنا، ويحفظ عليه عفته!
وأن المتزوج بأمة (جارية) ليس محصناً، على أن علة الرجم هو الإحصان أي الزواج، بل منهم من جعل الإحصان في الإسلام، وهو أمر يحتاج إلى توقف وتمهل طويلاً في هذه المسألة.
هذه بعض الإشكالات الأصولية والفقهية الوجيهة حول مسألة الرجم، والتي توضح أن التفكير فيها، وتناولها أمر طبيعي كدراسة فقهية، وسوف نتناول أولاً أدلة من قالوا بأن الرجم حد، ومناقشة هذه الأدلة، والسياق التاريخي لقضية الرجم، وأشهر الفقهاء المعاصرين الكبار الذين كتبوا وأصلوا في هذه القضية، والرأي الذي نميل إليه بأدلته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.