أقسم لك أنك لم تغب عن بالي وخاطري ولو للحظة خلال الفترة الماضية، وأن تأخري في الكتابة لك إن كان يدل على شيء فلا يدل إلا عن مدى فاجعتي بما حدث لك.
بدون تهويل للحالة التي هويت في براثنها؛ جاءت عليّ لحظات كنت على وشك الانزلاق في هاوية الاكتئاب بعدما تم الزج بك في غياهب السجون على خلفية صورة تفضلت سيدي بنشرها على فيسبوك وأنت ترتدي سترة صفراء على سبيل السخرية. السترة التي باتت جريمة يعاقب عليها كل خفيف ظل مثلك، أو مثل عمرو نوهان، أو شادي أبوزيد، بل ومازاد الطين بلة هو الزج بصديق آخر ليس له أي نشاط سياسي في غضون الأيام التي تم القبض عليك فيها. فصديقي الآخر لا يتعدى اهتمامه بالشأن العام اهتمام أي مواطن عادي يريد بواسطته تسلية وقته عبر مشاهدة برامج (التوك شو) ذات الصبغة السياسية.
ومشكلة صديقي هنا تكمن في أن البرامج التي كان يشاهدها -في محله الذي يبيع من خلاله مبيدات زراعية- ذات صبغة سياسية معارضة للسياسة العامة للدولة فوشى به أحد المخبرين مما أدى إلى القبض عليه على إثر هذه الوشاية وهو "لا له في الثور ولا في الطحين" كما يقولون.
بعد أن كنت قاب قوسين أو أدنى من السقوط في هاوية الاكتئاب رُدت إليّ روحي من جديد بعدما بلغت الحلقوم بفضل ابتسامتك الناصعة التي قابلتني بها أثناء حضوري إحدى جلسات الاستئناف على قرار تجديدك في ذات اللحظة التي كنت تقول فيها: إيه يا عيسى؟
ولكن قلبي ما لبث أن انقبض من جديد بعد أن علمت بما حدث لك في مكان احتجازك من تعرضك للضرب في بطنك على يد أحد حراس السجن، عندما تدخلت للذود عن سجين آخر يتعرض لاعتداء بدني. وعلى إثر ذلك منعت أنت ورفقاء زنزانتك من حقوقكم في الزيارة والتريض وغير ذلك من الانتهاكات التي تعرضتم لها سواء كشف عنها النقاب أم لا.
وبالرغم من جسامة الانتهاكات التي تعرضت لها أنت ورفقاء زنزانتك، إلا أن جسامتها تتضاءل إذا قورنت بما تعرضت له من حادثة مأساوية تدمي القلب وتندي الجبين؛ تتمثل هذه الحادثة في تعسفهم معك لدرجة وقفت حائلاً بينك وبين زيارة والدتك عليها رحمة الله وهي في أيامها الأخيرة في المستشفى، ويا ليت المأساة وقفت عند هذا الحد، فبكل أسف؛ المأساة تجلت في أفظع صورها عندما تم منعك مرة أخرى من حقك في حضور جنازتها. وأخذ عزائها بعد أن فاضت روحها الطاهرة، فأقسم بالحي الذي لا يموت إني صعقت بخبر وفاتها ولم أدرِ بنفسي إلا والعبرات تنسال على وجنتيّ أثناء حضوري جنازة والدتك السيدة الكريمة التي تم حرمانها من حقها في رؤية فلذة كبدها، وحرمانك من رؤيتها للمرة الأخيرة، قبل أن تسلك طريقها لمقابلة وجه ربها الكريم.
لم يخفف عني وطأة الجزع الذي انتابني في الوقت الذي كان يتم فيه التفنن في محاولة تصفيتك معنوياً أنت وعائلتك إلا موقف علمت من خلاله أن الخير لا يمكن أن يذهب سُدى مهما حدث؛ ففي جنازة والدتك؛ وجدت صبياً لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره يجلس بجانبي في المسجد، ونحن في انتظار صلاة الجنازة على المرحومة بإذن الله، فبادرني هذا الصبي بسؤال عن مدى معرفتي بك؛ فقلت له طبيعة معرفتي بك، ثم سألته بدوري عن مدى معرفته بك؛ فأجابني بأنه لا يعرفك معرفة شخصية، وأنه جاء لحضور جنازة والدتك وهو لم يلتق بك قبل ذلك ثم استرسل في القول، وكأنه يحدث نفسه (إزاي ما أجيش أحضر جنازة والدة ضهر اللي معندوش ضهر)؛ فهذا الموقف كان كفيلاً بأن يمسح دموعي ودموع كل مفجوع -من محبيك- من هول الذي تعرضت ومازلت تتعرض له. فأنا أحكي لك هذا الموقف لعله يطيب خاطرك وخاطر عائلتك الصغيرة التي تضم زوجتك وأخوتك وأبناءك جومانة وبيبرس وماهينور، وعائلتك الكبيرة التي تضم جميع محبيك وجميع المقهورين والمظاليم الذين كنت دائماً مدافعاً وإن شاء الله ستظل مدافعاً صلداًعنهم وعن أحلامهم البسيطة.
أعرف يا أستاذ رمضان إنك علمت بما حدث للصديق العزيز عمرو نوهان الذي تم احتجازه وهو في طريقه للقيام بمهمة إنسانية وتقديم الدعم القانوني للصحافية عبير الصفتي على غرار احتجازك، وأنت في طريقك لتقديم الدعم القانوني لأيمن موندي، على خلفية اتهامه بإهانة رئيس الجمهورية، وأعرف أيضاً أنك علمت بما حدث للإنسانة النبيلة رفيقتك ماهينور المصري التي قُبض عليها بطريقة بربرية مُريعة لا يمكن أن تتناسب مع رقتها التي زج بها هي الأخرى في دياجير السجون، بينما كانت تقدم الدعم القانوني لمعتقلي أحداث سبتمبر/أيلول الماضي.
وأنا الآن أسألك بعد أن بلغ بيّ الشجن أقصاه بصفتك محامياً بارعاً قيمته المهنية الكبيرة تجلت للقاصي والداني، ما هو السند القانوني الذي بمقتضاه تم الزج بك أنت وعمرو نوهان وماهينور المصري في غياهب السجون من جديد؟
إلى متى يستمر الافتئات عليكم؟ أليس حق الدفاع عن المتهمين حقاً دستورياً منبثقاً من أبجديات القانون؟ فلماذا إذاً يتم اعتقال محامين وهم في طريقهم لتقديم الدعم القانوني لموكليهم؟
أليست حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي حرية مكفولة في الدستور المصري والإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ فلماذا إذاً يتم الزج بالعديد من الشباب والشابات في السجون لأنهم يعبرون عن آرائهم وعن أفكارهم بصورة سلمية على مواقع التواصل الاجتماعي بحرية؟
ألسنا نحيا في دولة بها دستور من المفترض أنه عقد اجتماعي بين الحاكم والمحكومين، فلماذا إذاً يتم الضرب بنصوصه التي تحفظ حقوق الإنسان عرض الحائط؟ لماذا ندرس في كلية الحقوق شيئاً وما يحدث على أرض الواقع شيء آخر، بينه وبين ما ندرسه ما صنع الحداد؟
أليس الحوار هو الأسلوب الأمثل للعيش؟ لماذا لغة القوة والفتونة هي اللغة المهيمنة على الوضع الحالي؟ لماذا يتعين علينا دائماً طأطأة رؤوسنا لكل ذي سلطان حتى نسلم من بطشه؟ لماذا اختلت مفاهيم الأخلاق في مجتمعنا فبات الدفاع عن الحرية والكرامة والعدل شيئاً من عدم النضج والنفاق هو النضج ذاته؟ لماذا بات المدافعون عن الحقيقة أخلاقياتهم ممجوجة مجتمعياً بينما بات المداهنون والدجَّالون والفاسدون ومشوهو الحقيقة محاطين بهالة من الاحترام والتقديس والإجلال؟ لماذا ولماذا ولماذا!
أقسم لك يا أبا بيبرس إني ضقت بعجزي عن الإجابة على هذه التساؤلات وبهذه المفارقات ذرعاً؛ فأرجو منك أن تجاوب عليّ لأني في آخر مرة جالستك فيها في استراحة المحامين بمجمع المحاكم كانت هناك تساؤلات كثيرة تدور في ذهني على شاكلة هذه التساؤلات كنت أود أن أسألها لك. ولكنك قطعت عليّ الطريق بقولك ليّ -بلهجتك الإسكندرانية الجميلة-: "الدنيا تروق بس وهنقعد مع بعضينا". لكن للأسف حدث ما حدث، ومر أكثر من عام على هذه الجلسة (ولم نقعد مع بعضينا). إلا إني ما زلت منتظراً تلك الجلسة، ولم ولن أضيق بالانتظار، ولكن هذا لن يمنعني من أن أقول لك؛ والله العظيم ثلاثة طال الانتظار.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.