عبثاً نُصارع، عبثاً نُكابر ثم عبثاً نقاتل ومن العبث أن نُهاجر. وليس من حق البعث أن يُواصل العبث بنا. في زوايا كل مثلثٍ نرسمه في حياتنا نترك ذكرياتٍ لا نحب العودة إليها. ووسط كل دائرة مُغلقة تدور أحداث تلك الذكريات الجنونية، أحداث لا تخرج منا أبداً وعند كل سطر نترك فاصلاً ونرتعب لو تركنا نقطة.
من العبث أن نُصارع، تلك الهزائم التي تركناها خلفنا مرسومة على جدران الأسى وبالطبع جداً نضحك بهستيريا شديدة على عبثنا حين نكابر ونخرج فرحين قائلين "إننا بألف خير"، إذا من زجر الحياة عنا؟.
في المقابلِ نعبثُ بالقتال ونسْتحضِر ذاك الشّريط الذي يقف نصب أعيننا ويعري لنا كمية طعون سببها ذاك القتال الخاسر فينا دون جدوى من أن نخرج من ذاك الكابوس المحطم من أجل تقبل الحقيقة غير المُريحة.
ثم يا له من عبثٍ حين نترك كل شيء ونُهاجر كالطيور التي تبحث عن وطن خالٍ من البرد القارس، لنتجنّب برد اللحظات التعيسة وفي لحظة ارتياح دافئ نُسميه "راحة المحارب" نُغمض أبصارنا على شخوصٍ هنا وهناك نتذكر معهم "لعب الصّبا" ونذرفُ دموعنا مبتسمين على "أحلام الطفولة الساذجة".
كم عجّت الحارة بصراخنا وضجيج لعبنا وسمعت الجدران أحلامنا وشاركتنا الأحذية المقطعة آمالنا نحو الأفق.
عجبًا!؛ كم كان فينا شغفٌ بريء جداً، كنا نُشبه الدعاء، نملك أحلاماً كبيرة كسفينة نوح، نشم ريح يوسف ولم نعلم قط أن الحال يتغير إذا تغيرنا نحن وتتسع الآفاق وتتبدل الأحلام ونلبس ثياب أحلام أخرى، فيها من فرحنا للباسها وفيها جبر للخواطر.
لقد نال منا كل ما حولنا عند الكبر، أولهم العبث الذي نقاوم فيه ذاك الجشع. رغم كون المرء يصبّر نفسه بأنه صالح ولا نُزكي على اللّٰه أحداً، إلا أن الأمور العميقة لا تتركنا إلا في غيبوبة قد نُخطئ فيها ونقع وقعة مدوّية لا يعلمُها إلا اللّٰه. ثم سرعان ما نسيطر على الوضع ونعود لحالتنا الثابتة الأولى مُبتسمين أمام تقلب الوضع المنكسر فينا. وحين نتساءل ذاك السؤال المقلق مفاده متى يسود الهدوء على منازل قلوبنا؟ فتأتي الإجابة ببلاءٍ أكبر لندخل اختبار الصبر الطويل ونستحضر آبيات شعر عُتبة رضي اللّٰه عنه
"وكل دار وإن طالت سلامتها
يوما ستدركها النكباء والحوب"
ليلخص لنا هذا البيت وقع الحياة التي نكاد نتعايش معها بكل دقة، فإذا انتصف بنا الطريق -أو من نحو ذلك- نخبر الأيام أن اللّٰه كفانا وانتهى. نختصر الكلام الذي يحمل معان كثيرة، ولكن الكلام إذا طال سرده وتفصيله فقد لذة المعنى فنختصر. لكن لنعلم أن الحياة حربٌ، والحرب لا يصلحها إلا الإنسان المكيث الذي يعرف الفرصة والكف. لا يدخل الحياة كل من كان متهوراً يقول إنها مجرد لحظة نعيشها وانتهى وفي أول ابتلاء يسقط مغشياً عليه وتلك هي ضريبة التبسيط الأجوف.
لقد غطى الاضطراب على سعادتنا المؤقتة، وهذا إحساس يشبه التقشف، نغوص به في كآبة لا حلّ لها ونكتبُ بطريقة تكاد تلمس فسحة الأمل، من أجل أن نصارع اليأس الداخلي ونرفض بقسوة الهزيمة والدخول في قوقعةٍ سوداء. ومن حق أنفسنا علينا ومن يحبوننا أن نخبرهم ولو كذباً بأن كل شيء على ما يرام.
لقد قضى الكبرياء على فلسفة المتعة والفن الذي كان جسراً يمتد منا نحو هذا الكون الواسع، ببراءة الأطفال وفراسة الدماغ، إلى تلك الخرافات الخفيفة التي تقصها علينا الجدة، نحو الضحكات المجلجلة العجولة وصورنا الغريبة عند الطفولة، أردنا أن نتنازل ولو لمرة وبشكلٍ نهائي عن غرور الكبرياء وعن عرش الكسور، لنتمتع بما تبقى. لنكون سعداء لدرجة الهذيان رغم الحزن والأسف، لنمارس بتألم حقيقي وبعواطف متضاربة لعبة الحياة الكبرى.
لعل الذي كسرك عدلك وصنع منك إنساناً آخر، فكرة مذهلة تكون بلسم العزاء لهزائمك. لعل الذي كسرك عدلك، فما نحن إلا علم يسبح فوق طفيليات هامش الحياة المزعومة بأنها سر هذا الوجود والكذبة الصعبة والمتاهة التي لا تنتمي إلينا. في صمتٍ مدقعٍ، علينا أن نفكر جيداً في قول اللّٰه تعالى "وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" فلم لا نبصر في قعر أنفسنا؟ فلماذا يصبح الموت يمثل أملاً حقيقياً في حياة الإنسان؟ والحال أن الموت نفسه امتداد لحياة أخرى نجعلها. إن السر الحقيقي الثابت بأن الابتسامة إهانة للعجز وللعبث. فأن تعرف أن الهزيمة التي تحمل في أحشائها الكثير من الكسور تحمل في المقابل كما هائلاً من القوة للصمود ووجب الإيمان بها وترك فكرة أن الشر وجب أن يزول، إذا لم نحاربه بكل قوة. ففي ضوء الشمس الغاربة سؤال يجول في خواطرنا ونحن نحدق في غروبها، أين تذهب الشمس؟ ونحن كبشر أين نذهب إذا غربت شمس آمالنا وأحلامنا؟. لنعاود التحديق جيداً في الشمس لنعرف أنها تختفي في مكان لتتألق في آخر، لها وظيفة كما لنا نحن البشر وظيفة، فنحن لم نكن هنا عبثاً. فكل ذاك العبث الذي أحسسناه مجرد سراب جعلناه حقيقة ملموسة فانية.
تلك الهزائم الغادرة التي تعيدنا إلى الوراء فجرت ردود فعل مضادة ومضاعفة أفسدت طعم المثابرة ولكن نحن لسنا في سباق مع الجنون، وغايتنا الأخيرة أن ننطلق كما ينطلق السهم من القوس، نحو تلك الخالدة للأبد. فالسيف خرج من غمده ورفع في وجه أكبر عدو لنا "السقوط والعبث". فما أغرب الذهاب كل يوم لنفس الذكريات، مكان غريب لا إغراء فيه فمتى نجد الشجاعة الكافية لإغلاق باب جميع الذكريات؟.
بصوت واثق هذه المرة؛ إن كل ما أخضعنا، شتت الأمل فينا، شخوص فتت مشاعرنا والكثير من الأشياء المرعبة التي كنا نخال أنها كسرتنا قامت بتعديلنا وإغاثتنا من الوهم.
فإن المصائب التي تكاد تدفعنا إلى الجنون -وبالكاد تفعل- تشبه العاصفة الهوجاء التي تجتاحنا ثم تقتلعنا من جذورنا ولكن نواجهها مواجهة صارمة معتدلة ولا نقع.
إن الكسور كالحيّة تماماً تبصق أنيابها السامة في عروقنا وتذهب ترقص في مرح، بينما نبقى رهائن أمرين "إما الصمود والصعود، أو النحيب الساذج".
لعل ما كسرنا قام بتعديلنا ونحن لا نعلم وفي لحظة ما أدركنا ذلك..
لا أعلم إن كنت عبرتُ عن إحساسي جيداً ولكن أعي أن كل ما كسرني، عدّلني وهذا كافٍ.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.