أنفق الرئيس الفرنسي 26 ألف يورو على مكياجه الخاص في الشهور الثلاثة الأولى من رئاسته، هكذا كشفت صحيفة لوبوان الفرنسية في أغسطس/آب 2017 عن جزء من شخصية الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون، الرئيس الذي وُلد في عام 1977 خرج سريعاً من انتقادات عمليات التجميل الشخصية إلى مواجهة أزمات وجه أوروبا المتجعد التي قد تمنحه زعامة مناسبة زماناً ومكاناً.
وتبدو الساعة الأوروبية الراهنة مزدحمة بالكثير من تحديات المعطيات القاسية منذ يونيو/حزيران 2016؛ حيث بداية مسلسل بريكست الطويل وآثاره الثقيلة، مروراً بزلزال فوز دونالد ترامب بالانتخابات الأمريكية نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وتبعات ذلك المستمرة على العالم، وصولاً إلى مستقبل غروب حقبة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في 2021، وكلها محطات رئيسية يتفاعل معها ماكرون بجدية بالغة وبأطروحات جديدة ترى الجميع بعين برغماتية تماماً "عين الوحدة الأوروبية".
فبعد أربع مرات من طرق ماكرون للباب غير الصحيح بشأن دعوته لإنشاء جيش أوروبى موحد، التي أثارت ضده انتقادات أمريكية وأوروبية صاخبة، يعود الرجل مؤخراً لانتقاد منظمة حلف شمال الاطلسى "ناتو" الذي يضم 29 دولة حتى الآن، وينعته بأنه "ميت سريرياً"، هذا في اختيار ذكي جداً من ماكرون للملف الذي يُترجم أغلب تحركاته طوال الثلاث سنوات السابقة.
من حيث التوقيت فماكرون عائد لتوِّه من زيارته السنوية للصين " 4 – 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2019" التي أنشئ الناتو قبل 70 عاماً لمواجهتها وحليفتها روسيا، كما يحل في 9 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري الذكرى الثلاثون لسقوط جدار برلين وانهيار الشيوعية في أوروبا، وأيضاً على مقربة شهر كامل من قمة حلف الأطلسي في ديسمبر/كانون الأول المقبل بالعاصمة البريطانية التائهة في تعقيدات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.
ومن حيث المضمون فالرئيس الفرنسي بتصريحاته ضد الناتو يؤكد أمرين: أولهما "فاعلية دوره" استناداً على طرح رؤيته حول "أوروبا المتجددة" والمنشورة في الخامس من مارس/آذار الماضي في 28 دولة أوروبية التي دعا فيها لعدة مقترحات مهمة، منها مراجعة اتفاقيات إلغاء الحدود بين 22 دولة أوروبية، واستحداث شرطة حدود موحدة لمواجهة التهديدات الأمنية وكذلك تفعيل مبادئ التفصيل الاقتصادي للمصالح الأوروبية، ووضع حد أدنى للرواتب في القارة فيما يعرف بالدرع الاجتماعي.
وثانيهما هو "اختبار ردود فعل أطراف عديدة"، فعلى الجانب الأمريكي أخيراً وجد ماكرون مساحة اتفاق مشتركة ومهمة مع ترامب الذي أشار أيضاً في السابق إلى عدم فائدة الحلف بشكله الحالي وبتدني مساهمة أعضائه بأقل من 2% من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة، فالولايات المتحدة تحملت وحدها أكثر من 706 ملايين دولار من نفقات الناتو للدفاع العام الماضي بما يعادل 3.5% من ناتجها المحلي بينما جاءت المملكة المتحدة في المرتبة الثانية بأكثر من 61 مليون دولار فقط أي نحو 2.1% من ناتجها المحلي الإجمالي وهو ما ستستمر لندن بدفعه، بالإضافة إلى مشاركتها في ميزانية الاتحاد الأوروبي حتى نهاية 2020 رغم اقتراب انفصالها خلال يناير/كانون الثاني القادم.
كما حلت فرنسا ثالثة في حصة نفقات دفاع الحلف في 2018 بنحو 1.8% من ناتجها المحلي، أي أكثر من 52 مليون دولار سنوياً وتلتها ألمانيا بنسبة 1.2% فقط ناتجها الإجمالي بما يعادل 51 مليون دولار فقط، وهو الأمر المزعج والمكلف جداً لإدارة ترامب التي بادر وزير خارجيتها مايك بومبيو بتأييد فوري لرؤية ماكرون حول ضرورة إصلاح حلف شمال الأطلسي.
هنا يقف ماكرون مغازلاً ترامب بورقة الناتو بعد انسحاب الأخير من اتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي مع إيران واستمرار حروبه التجارية ضد أوروبا وهي القضايا التي استطاع فيها ماكرون صف كل من الصين وروسيا وألمانيا إلى جانبه في مواجهة الإدارة الأمريكية.
أما على الجانب الأوروبى الداخلى، فنرى ماكرون يتشدد في ملف بريكست أكثر من ألمانيا نفسها بزعامة ميركل، التى تتأهب لترك موقعها في 2021 ، وترفض من الآن دعوات ماكرون إلى إصلاح حلف الناتو وزيادة مساهمتها في نفقات الدفاع إلى 2% من الناتج المحلي، فرجل فرنسا يصرُّ على لعب دور أكبر من ميركل، ويؤكد خروجاً خشناً لبريطانيا، حتى تكون حالةً لكل من يريد هدم جهود المخلصين في وحدة الاتحاد الأوروبي، بل دفع مُواطِنته الفرنسية كريستين لاغارد إلى رئاسة البنك المركزي الأوروبي، "قلب الاتحاد المالي" الواقع في فرانكفورت الألمانية؛ في سعي مستقبلي لنقله إلى باريس.
وعلى جانب روسيا التي تصف الناتو بـ "الكيان المريض"، يشجع ماكرون أوكرانيا على الانضمام القريب إلى حلف شمال الأطلسي، لتقزيم دور روسيا بوتين في أوروبا، ولضمان السيطرة السياسية والدفاعية على قرارات تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أوكرانيا.
هنا لنا وقفة أمام جانب مهم جداً وهو الصين، التي تتشارك مع كل الدول الغربية من حلف الناتو في إدراك خطرها الاقتصادي عليهم، وهو ما استخدمه ماكرون بوضوح للترويج لزعامته الأوروبية، فبين قوسَي زيارة الرئيس الصيني "شي جين بينغ" لباريس أواخر مارس/آذار الماضي، ضمن جولته الأوروبية، وزيارة الرئيس الفرنسي لبكين أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، انطلق ماكرون يفند ويضبط الحضور الصيني في أوروبا، من خلال إصراره على استفادة متكافئة لأوروبا والصين من مبادرة الحزام والطريق التي تغزو 123 دولة حول العالم، وإعادة النظر في أنشطة "هواوي" بشأن شبكات الجيل الخامس؛ حفاظاً على الأمن الأوروبي، وكذلك الوصول العادل لأسواق الجانبين، ومقاسمة فرنسا للصين حضورها المتنامي في إفريقيا.
بالإضافة إلى رفض ماكرون حرب ترامب التجارية ضد بكين والعمل على الاستفادة منها، وخير دليل على ذلك أن الدول الأوروبية خلال عام 2018، أضافت نحو 70 مليار دولار إلى حصتها التصديرية لدول العالم، منها 50 مليار دولار لملء فراغ صادرات الصين إلى الولايات المتحدة. كما سجلت صادرات أوروبا إضافة مهمة بنحو 20 مليار دولار، ذهبت إلى الصين عوضاً عن المنتجات الأمريكية، التي لم تذهب إلى بكين بفعل الحرب التجارية.
ويبدو أن الصين تفهم جيداً طموح ماكرون، "فرغم انتقاداته المستمرة لها بشأن هونغ كونغ وحقوق الإنسان"، فقد أرخت بكين حبال التجارة لباريس قليلاً من صفقة شراء 290 طائرة إيرباص بنحو 30 مليار دولار في مارس الماض/آذار، إلى توقيع اتفاقيات تجارية بينهما بنحو 15 مليار دولار، في زيارة ماكرون الأخيرة للصين؛ بغية تخفيف نظرة باريس إلى تمدُّد الفوائض النقدية الصينية في الاستحواذ على الأصول الأوروبية.
ختاماً، ما زال الملعب العالمي يتَّسع أمام الدينامو الأوروبي "إيمانويل ماكرون"، للعب أدوار جديدة يتجمل فيها، ويستعيد على أثرها وجه أوروبا القوية المتجددة التي يطمح إليها، بتوازنات متداخلة وخطيرة تمنح الفرص وتمنعها أيضاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.