بحلول صيف 2006 كنت أنتظر أول بطولة كأس عالم على أحر من الجمر، ستكون أول بطولة أتابعها بالكامل. في ذهني بعض لقطات لمباريات ثلاث شاهدت فيها البرازيل بمونديال كوريا واليابان، لكنني لا أذكر منها سوى أنني أحببت بلاد السامبا بجل لاعبيها. لكن اسم رونالدو الذي كان يتكرر على مسامعي مِمَن يكبرونني سناً ويعون كرة القدم بشكل أعمق؛ حرك فضولي كأي طفلٍ لمتابعة مباراة لهذا المدعو رونالدو وفريقه. ومنذ ذلك الحين وأنا أشجع البرازيل ربما لأنني لم أرَ زيدان أو بيركامب أو أياً من النجوم اللامعة وقتها. أو ربما لأن طفلاً في بداية متابعته للكرة حينها سيتعلق بأي لاعب يسجل ويجعل فريقه يفوز، فأنا لم أدرك حينها تعقيدات اللعبة. لم أكن أعرف ما هو التسلل أو الركلات الحرة، كل ما أعلمه أن على الفريق إدخال الكرة في الشبكة، ومن ثم أدعو الله في سري ألا يحتسبها الحكم تسللاً، كم كرهت التسلل وكم أفسد عليّ فرحتي بكثير من الأهداف. وكنت أتساءل لم لا يقومون بحذفه من اللعبة، لما لا يلغون ذلك الشيء الذي لم أفهم مغزاه حينها؟
أربعة أعوام بين المونديالين، غذيت خلالها عقلي وشغفي بكل ما يتفوه به الكبار عن كرة القدم، الجدال في الكرة المحلية أو العالمية؛ أجلس في صمت وأنصت لحديثهم لأفهم اللعبة أكثر. أستوعب أن فوز فريقك بمباراةٍ لا يعني بالضرورة فوزك بكأس ما، أو أن خسارة فريقك ليست نهاية العالم الفريق.
بدأ مونديال ألمانيا وأنا أكثر وعياً، بدأ وقد بات يتردد على مسامعي الكثير من الأسماء تلك المرة، لكنني بقيت متشبثاً برونالدو والبرازيل كنت متيقناً أنهم سيربحون كأس العالم مرة أخرى. إن كنت ممن شاهدوا تلك البطولة فإن هنالك العديد من الأسماء التي لفتت الانتباه مثل ديل بييرو زيدان أو حتى الشاب اليافع حينها كريستيانو رونالدو، لكن ما لفت نظري حينها أكثر مِن غيره كان دافيد فيا سانشيز.
كلاكيت أول مرة
في مجموعة ممثلي العرب شاهدت أولى مبارياتي للمنتخب الإسباني أمام نظيره الأوكراني، لفت فيا نظري دوناً عن أي لاعب آخر، قد تتفهم هذا لأنه سجل هدفين يومها، إلا أنهما كانا من ركلة حرة حوّل مدافع مسارها والأخرى من ركلة جزاء. ليصبح إعجابي بفيا مجهول السبب كإعجابي برونالدو وسحرة السامبا من قبله.
تابعت إسبانيا حتى الخروج القاسي أمام فرنسا، أو تحديداً أمام أقدام زيدان التي كنت أمقتها في بداية تشجيعي للكرة أسفاً، ستتفهم وضعي إن كنت محباً للبرازيل وإسبانيا في تلك الحقبة. لقد كان من الجيد أنها البطولة الأخيرة له، لأنني لم أكن لأتحمل مرارة إقصاء فريق آخر أحبه على يده. ندمت لاحقاً على أنني فكرت بهذه الطريقة في حق ساحر فرنسا لكن أعتى المشجعين الناضجين قد يفقد أعصابه، ما بالكم بطفل لم يتجاوز العاشرة.
بعد انتهاء المونديال كانت الليغا الإسبانية هي محطتي التالية في عالم كرة القدم، لأقع في غرام برشلونة بفضل رونالدينيو، لكن رغم تخمة الأسماء البراقة في هجوم برشلونة حينها إلّا أنني لم أنسَ فيا.
في نفس الوقت كانت لعبة الفيديو "PES 2006" يذيع صيتها في الأرجاء وكان فالنسيا إحدى فرقي المفضلة في اللعبة. أردت أن أعوض عدم قدرتي على متابعة معظم المباريات حينها باللجوء للعالم الافتراضي، أحببت فيا بمرور الوقت ومن مبارايات قليلة شاهدتها له رفقة خواكين وسيلفا، وتمنيت ارتداءهم لقمصان النادي الكاتالوني، كان عقلي مراهقاً يريد تعبئة فريقه المحبوب بكل النجوم الذين ستقع عليهم عيناه.
ربما بسببهم لاحقاً صار اللاروخا هو منتخبي المفضل في أوروبا وانتظرت بطولة أمم أوروبا 2008 بشغفٍ أكبر هذه المرة، منتظراً معجزةً ستحدث لماتادور الأندلس.
توجت إسبانيا باللقب، ربما لأن خط وسطها كان مرعباً، وربما بسبب اختفاء الأصلع الفرنسي، بالتأكيد تعلمون عمن أتحدث، أياً كانت الأسباب لكنني لم أدقق كثيراً لأنني كنت سعيداً من أجل فيا لا أكثر.
بعد عام ونصف من سحر برشلونة على يد الأستاذ التلميذ غوارديولا، أتى كأس العالم ليزيدني يقيناً أن تلك الحقبة هي الأكثر كمالاً لي كمشجع، إما على مستوى النادي أو المنتخب؛ فيا أتى لأراضي القارة السمراء ليبدع أكثر من أي وقتٍ شاهدته في حياتي، أتذكر هدفيه أمام هندوراس والذي أتى أحدهما بمهارةٍ فريدة، فلكم عشقت تلك التسديدات المقوسة بسبب لاعبين كدافيد.
غطى فيا على هبوط مستوى توريس المصاب، وكان أحد أسباب وصول الحُمر لنهائي كأس عالم الإفريقي، والتي توجوا بها بفضل تسديدة إنيستا وتألق كاسياس الملفت. وبقي هو دون غيره ظل أيقونتي الإسبانية المحببة عن الجميع، كنت أنتظر أن ينبت الشعر تحت فمي كي أقلد قصة ذقنه. أصبحت مهووساً به ولم تسعني الفرحة حين أدركت أنه قد وقع أخيراً للانضمام لصفوف برشلونة.
كنت أنتظر بفارغ الصبر نسخة لعبة الفيديو نفسها لذاك العام، لن أُضطر للعب بفالنسيا مرةً أخرى، فيا بات متاحاً بجانب لاعبي برشلونة الآن في العالم الحقيقي والافتراضي، لم يخب ظني في الـ "كواخي" في أول مواسم بالنادي الكاتالوني، كان القطعة الممتازة لتعويض رحيل هنري لم لا، وهو يشبهه كثيراً في الأسلوب، اللاعب المهاري القادم من الطرف لعمق الملعب كي يسدد كرته المقوسة، التسديدة المفضلة لي.
شراكته مع ميسي لم تتواجد بها أي مشاكل كما حدث مع إبراهيموفيتش، فيا لم يطمع كثيراً كما أنه كان أكثر حركيةً وهو بالضبط ما أراده بيب. لم يتوقف فيا عن إبهاري في المباريات الكبيرة تحديداً أمام الغريم ريال مدريد. كما لا أنسى إلى يومنا هذا تعليق المعلق التونسي المخضرم رؤوف خليف "ودافيد فياااا" بملء حنجرته، وبصوته المميز في نهائي دوري الأبطال أمام مانشستر يونايتد، حين أطلق دافيد على الإنجليزِ رصاصة الرحمة بالتسديدةِ التي طالما برع بها، المقوسة.
استمر برشلونة في زحفه على الألقاب ذاك العام ولم يخسر إلا الكأس فقط في موسمٍ ذهبي آخر للنادي. حتى أتت صدمة مباراة السد؛ حين تلقى فيا كسراً في قدمه أنهى موسمه باكراً للغاية، بل إن الإصابة امتدت لتحرمه من المشاركة في يورو بولندا وأوكرانيا، فحتى مع تحقيق الإسبان للبطولة وكسرهم لرقمٍ قياسي حينها، لم أكن سعيداً فيا لم يكن هنا، لم يترك بصمته الخاصة في البطولة.
مئة سببٍ وسبب جعلت من لاعب السد اللاعب رقم واحدٍ في قائمتي السوداء، فبفضله عانى برشلونة طوال الموسم أمام فرقٍ عدة، أبرزها موقعتا تشيلسي في أبطال أوروبا، سانشيز لم يكن في مستوى فيا، وتيو وكوينكا لا يزالان يافعين، ليُقصى برشلونة بأقسى سيناريو رأيته كمشجع لكرة القدم في حياتي التشجيعية.
عاد فيا الموسم التالي بمستوى بعيدٍ عما عهدته، لياقة أبعد عن المعتاد وتركيزٍ أقل، ربما كان عامل السن أو أن الإصابة كان أثرها ممتداً لما بعد التعافي، ربما كلاهما الأمر الأكيد الآن أن فيا ما قبل مباراة السد ذهب بلا رجعة.
الوضع ازداد توتراً بينه وبين الفريق بمشادات بينه وبين ميسي تحديداً في مباراة سيلتيك في إسكتلندا، استبعد كثيراً من القائمة الأساسية ليبدأ العد التنازلي لرحيله، خاصة مع تزايد اهتمام برشلونة بموهبة الشاب البرازيلي نيمار، ولم يكذب ساندرو روسيل حينها خبراً ببيعه لأتليتكو الطامح لحجز مكانٍ وسط الكبار وهو ما كان لاحقاً.
طعنة قاسية
في أولى مبارايات فيا مع الروخي بلانكوس أمام برشلونة في السوبر الإسباني، سجل هدفاً بعد انقضاء اثنتي عشرة دقيقةً فقط على بداية المباراة ليحتفي الكواخي بالهدف بشغفه المعتاد، الذي لم أتقبله أنا ومن ناصر برشلونة بصدرٍ رحب. البعض أطلق صافرات استهجان بحق فيا، والبعض الآخر دافع عنه مبرراً طريقة إنهاء إدارة برشلونة لمسيرته مع النادي الكاتالوني بتلك الطريقة المخزية، لكني آثرتُ الصمت.
كنتُ قد شهدتُ أهدافاً منه ضد برشلونة وقت أن كان في صفوف فالنسيا، لكن كان ذلك قبل أن يحمل أعلام كاتالونيا لثلاثة مواسم، كنت مصدوماً من تصرفه وتوقعت أن يحترم فريقه السابق فهو لم يكن قد مضى على رحيله سوى أشهر بسيطة، لا أطلب منه المثالية لكنكم تتفهمون بالطبع أن كل مشجع يريد من لاعبه المفضل ألا يقوم بالأفعال التي قد تنقص من حب ذاك المشجع لذاك اللاعب، وعلى الرغم من تلك الواقعة لم أنحز لأي من الطرفين، سواء من برر له أو من هاجمه، لم أجد لفعلته مبرراً، ولم أستطع أن أنتقص من إعجابي بذاك اللاعب، فهو المهاجم الذي لم أقوَ على كرهه.
"لقد أعطاني برشلونة دائماً عاطفة كبيرة وحتى هذا اليوم، لدي فقط كلمات امتنان لهم".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.