حين ذهبت إلى "السايبر" قبل ثلاثة عشر عاماً كي أعرف درجتي في الثانوية العامة، كنت وحدي، أقف قبالة الشاب الذي راح يضغط بأرقام جلوسي في انتظار النتيجة، بينما لم تكن عيني على الشاشة، فقط على كل هؤلاء من حولي، الذي يحتضنهم آباؤهم ويصحبهم أصدقاؤهم، في اللحظة الحاسمة، بعضهم لم يأتِ أصلاً وتكفل والده أو والدته بالاستعلام لأجله، أنا فقط كنت وحدي، تهلل وجه الشاب مؤكداً "ده انتي شكلك شاطرة أوي" حاول حساب النسبة المئوية سريعاً قبل أن يهتف "جبتي 97%" تجهمت الوجوه من حولي أما أنا فابتسمت وفرحت، وثبت وطرت إلى المنزل كي أبلغ أمي بالنتيجة، لكنها لم تفعل شيئاً سوى البكاء والصمت، كانت خائفة لم تصدق النتيجة فاستغرقها الأمر وقتاً طويلاً لتفهم قبل أن تذرف دموع الفرح التي أحالت سعادتي حزناً، لم يكن لديَّ أصدقاء يحتفون ولا عائلة تكافئ أو تزغرد، فقط أمي كانت تشعر أن الله استجاب لها أخيراً وأن دورها الرئيسي انتهى عند تلك النقطة بسلام، كان مجهودها طوال السنوات الطويلة وقلقها كفيلاً بأن يحرمها لذة السعادة في لحظة الوصول، أما أنا فجلست أمسك بالورقة التي تحمل الأرقام وأنا أتساءل: "إيه بقى؟".
تحولت سعادتي إلى ضيق شديد، هو ذاته الضيق الذي كانت أشعر به في الأعياد والمناسبات، حيث الجميع يزور الجميع بينما أنا ولظروف عديدة أجلس وأمي قبالة بعضنا، حيث ترفض الخروج أو أي شكل من أشكال الترفيه بينما أنا أقضي كل الوقت وحدي في غرفتي أشعر أن الكون أضيق من تلك المساحة التي أجلس فوقها.
حين تم تثبيتي في العمل، وحظيت أخيراً باعتراف نقابة الصحفيين المصريين، وهو أمر في الحقيقة جلل، كان الجميع يضحكون ويتواثبون لفرط السعادة بينما أنا وحدي التي ظلت تبكي من بداية اليوم لنهايته، كان ذات الضيق يعتصر قلبي وكذلك الإحساس الخالد بأنني وحدي.. وحدي تماماً، وفي تلك اللحظة اكتشفت الأمر بالطريقة الصعبة.. النجاح لا طعم له دون أن يكون هناك من يشاركك فرحته، كذلك الأمر مع المناسبات السعيدة والأحداث الكبرى، يفرح الجميع بينما تسيطر عليك مشاعر قاسية وصوت في الخلفية يؤكد "لا شيء يهم"، لعل هذا هو السبب أيضاً في حاجتي المستمرة للثناء، يسعدني الأمر كثيراً لأنني جائعة للاهتمام والتقدير والشعور بأن هناك مَن يكترث لشيء مما أفعل.
بسبب هذا كله وأكثر كنت أفهم ما عاناه هيثم أحمد زكي جيداً، على الرغم من التعاطف الواسع معه عقب إعلان خبر وفاته، ليس لأنه شاب توفي بغتة فقط، ولكن أيضاً لأنه كان وحيداً، دعوات بالرحمة وشعور بالذنب لدى هؤلاء الذين هاجموه، وانتقدوه بعنف من قبل "عاش وحيداً ومات وحيداً" جملة ترددت بينما لا يفهم أكثر من رددوها معنى أن تكون وحيداً!
في لقاء سابق له مع عمرو الليثي أذيع عبر فضائية الحياة، أراد المذيع أن يستدر دموع هيثم فبدأ حديثه عن الوحدة "الوحدة صعبة مش كدا؟" سؤال مؤلم جداً لكن إجابة هيثم كانت أكثر إيلاماً، خاصة بالنسبة لي، لأنني أعلم عما يتحدث جيداً، قال هيثم وقتها: "البني آدم لما يكون لوحده تماماً دي بتبقى حاجة صعبة، لما بيكون حواليك ناس، بيشجعوك، ويستنوك، تقول لهم أنا طالع في برنامج، أو في فيلم كذا، استنوني اتفرجوا عليّا، لكن أنا في الموضوع كله لوحدي محدش مشاركني حاجة" مسألة تعامل معها باعتبارها ابتلاء لكنه عاد ليتسدرك سريعاً عقب كثيراً من الحمد والشكر لله "ربنا ما بيبتليش حد بحاجة إلا لو كان قدها".
ليست الوحدة أزمته الوحيدة
الشعور بالإنجاز هو أكثر ما يسعد الشخص الوحيد، شعوره أنه حقق شيئاً استطاع لفت نظر مَن لا يعرفونه، فجعلهم يقتربون منه، يثنون عليه ويقولون له "أحسنت"، تلك الكلمة التي لا يجدها في واقعه القريب، نعمة ضن بها الواقع على هيثم كثيراً، حيث لم يلبث الشاب أن تعرض لهجوم عنيف، واتهام متواصل بأنه ضعيف ولا يجيد التمثيل وأنه مجرد مقلد لوالده، بداية من دوره في فيلم حليم الذي أداه في أعقاب وفاة والده مباشرة، مروراً ببطولته المطلقة الوحيدة "البلياتشو" الذي أصابه الهجوم من بعدها بإحباط شديد "اقتنعت إني فاشل، فضلت تلات سنين معملش حاجة وثقتي في نفسي راحت تماماً، وبقيت خايف حتى إني أدخل أزور حد في لوكيشن"، تهم آلمته بشدة، حتى إن كل لقاءاته التلفزيونية والصحفية لم تخلُ من رد على ذلك الاتهام الذي تحول إلى جزء من حياته وأفسد عليه سعادته بإنجازاته الصغيرة في عالمه القاحل.
"الناس فاكريني صغير بس أنا كبرت" كان يؤكد هذا باستمرار وبطرق مختلفة، في محاولة للفكاك من الدائرة الضيقة التي تم حصره فيها دون جدوى.
اختبارات قاسية في سنوات قليلة
"في صورها الفوتوغرافية، ومقاطع الفيديو الخاصة بها، كانت والدته هالة فهمي، تحتضنه طوال الوقت، حضن عميق، لم يستمر طويلاً، حيث بدأت أعراض المرض لديها حين كان في عمر الرابعة، وتوفيت قبل أن يكمل عامه التاسع، في ذلك الوقت لم يكن والده متفرغاً له، هكذا تفرغت جدته لتربيته، ولم يكن هيثم غاضباً بأي شكل من هذا، على العكس كان متسامحاً جداً؛ لهذا برر الأمر بقوله: "كان صعب يبقى أب وأم وفي نفس الوقت كان منشغل جداً عشان فنان عظيم وطول الوقت متقمص الشخصيات المختلفة".
لكن توفي والده ومن بعده جدته، تلك الأخيرة كانت الأكثر قسوة بالنسبة له "تيتا من وقت ولادتي كانت أقرب شخص ليا، ماسابتنيش لحد لما اتوفت" السيدة التي اعتبرها والدته الحقيقية، توفيت أثناء تصويره لفيلمه الأول "البلياتشو"، بعدها توفي خاله الذي كان يعوض انشغال والده، "أنا مش بستعطف الناس" هكذا كان يتلاشى التوغل في السيرة الكئيبة، وراح يحاول شق طريقه بنفسه وعلى طريقته، متجاهلاً كل تلك المحاولات لوصفه بالوريث الكسول، لعل هذا هو السر في أن صفحته عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك لا تحمل سوى الأخبار التي تحمل كلاماً طيباً بشأنه، كان يهتم بردود الفعل، ليس فقط من النقاد، ولكن من المشاهدين فرداً فرداً، دفعه هذا إلى التقاط لقطات للشاشة عقب دوره في "السبع وصايا" إلى عدد من التعليقات عبر موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" يثني أصحابها عليه وعلى دوره حيث اعتبر الأمر وقتها بمثابة جبران خاطر وبداية مختلفة حاول في السنوات اللاحقة أن يجعلها أكثر اختلافاً، كانت بدايه صعبة في حليم، اعتاد أن يصفها بـ "المأزق" لكنه خرج منها بنجاح واجتهاد واضح، لكن القدر لم يمهله.
طموحات كبرى وحب للرياضة
"ممثل لم يكتشف ما في داخله حتى الآن" قالها الراحل محمود الجندي في لقاء خاص به، لم تكن الشهادة الوحيدة بحقه، "الولد دا لازم يمثل" قالها يوسف شاهين، كما اعتبره المخرج ريف عرفة "ممثل موهوب" شيئاً لم يروه وحدهم، والده نفسه كان يرى فيه ممثلاً عظيماً ينتظر المزيد ليقدمه "سمعته مرة بيقول من ورايا دا الوحيد اللي هايبقى أحسن مني، محدش في الدنيا هايعرف يمثل زي هيثم بس يخلص جامعته، كان بيعمل معايا ارتجالات ونتبادل الشخصيات، لوقت طويل".
تدارك هيثم الهجوم بمزيد من التدرب على ورش التمثيل "مقدرتش أقبل على نفسي الناس تقول إني مثلت عشان أنا ابن أحمد زكي، أنا عارف إن الموهبة جوايا، ومقدرتش أبعد".
كان هيثم يتمنى القيام بأدوار الضابط، والملاكم، فهو في الواقع كان رياضياً صاحب جسد مصقول، يحب "الملاكمة" ويتمنى تجسيد كواليسها على الشاشة، لعل هذا ما دفعه لمحاولة التفاوض لتقديم فيلم "كابوريا 2".
دروس هيثم
كان هيثم يؤمن أن كل شيء سيكون على ما يرام، هكذا واصل بناء حياته بخطوبة ناجحة، وبيت أراد له أن يتأسس على قواعد قوية، مزيد من الأعمال، والتخطيط والنضوج لكن القدر كان له مسار مختلف ومصير أكثر اختلافاً ليس بالضرورة أسوأ، حتى لو كان وفاة.
كانت حياته مثالاً، كما وفاته، بالضبط، حيث تحول إلى رسالة قدرية إلى بلد كامل بات يشعر بالذنب، تجاه "الصغير" الذي ظلموه بنقد جارح في حياته، دون رفق أو التماس لأي أعذار، كما أثارت انتباههم إلى كل هؤلاء الذين يعيشون وحدهم ويحتمل أن يموتوا وحدهم دون أحد يسارع بهم إلى المشفى أو حتى يتسلم جثامينهم من المشارح عقب الوفاة!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.