بوقوع النكسة كانت أحلام جموع المصريين قد بدأت في الانهيار، الحلم الناصري القومي تحلل بين يوم وليلة، لم يبق للشعب المصري من الحقبة الناصرية إلا مرارة الهزيمة. الهزيمة المبكرة التي قتلت الشعب المصري، وأربكت هويته الناشئة عقب إعلان الجمهورية. تلك الهوية كان خطابها الرئيسي موجهاً ضد الإمبريالية الغربية وضد رجعية الشرق، لقد كانت هوية ناشئة يسعى جمال عبدالناصر لترسيخها في عقول المصريين. إلا أن النكسة ألقت بهم بأيدي صانعي الرجعية والتخلف بقرار سياسي معد سلفاً من المنتصر الجديد: محمد أنور السادات.
عند الطوفان يلجأ الناس للمعابد
وقع السادات على معاهدة السلام مع إسرائيل، وأطلق رصاصة الرحمة على ما تبقى من مشروع ناصر القومي، وقضى على أطلال الوجود المعنوي للمجتمع المصري. لذا أصبح لزاماً إعادة تكوين هوية جديدة للمجتمع.. "دولة العلم والإيمان".
هنا ظهرت الحاجة لواجهة دينية، قادرة على صياغة الدين في خطاب شعبي بسيط. ولم يكن هناك أفضل من الشيخ الشعراوي ليمثل جناح الإيمان في دولة السادات الجديدة. تكفل الشعراوي بتكوين الهوية الدينية "المدجنة" التي أرادها السادات، وهذا لا يعني أن هناك اتفاقاً مبرماً بينهما، لكن تلاقت أفكار الرجل –الذي سجد شكراً لله على النكسة– مع الرجل الذي يسعى لخلق شرعية وهوية جديدتين لمرحلة ما بعد كامب ديفيد.
تدجين المواطن
جاء خطاب الشعراوي على مسافة واحدة من الجميع، نبرة ومواقف هادئة -في أغلب الأوقات- مع كل القوى الفاعلة في المجتمع، لم يدخل الرجل في صراعات ضخمة مع الدولة أو الإسلام السياسي، وبالتأكيد لم يكن ليصارع الأزهر. ولم يكن هناك من هو أنسب منه ليحظى باحترام وقبول الجميع، فخطابه الديني لا يتطرق للسياسة من قريب أو من بعيد، وهو الأمر الذي كان مرضياً للسلطة السياسية آنذاك ولباقي القوى السياسية. ومع منح برنامجه أفضل أوقات العرض على شاشة التلفزيون المصري، وتسهيل إيصال صوته لأكبر عدد ممكن بدأت عملية تشكيل الهوية الدينية للأغلبية العظمى من المصريين وفقاً لأفكاره وآرائه تؤتي ثمارها.
أصبح لهم درع وسيف
استطاع رجال الدين خلال حقبة السادات وسنوات الركود في عصر مبارك تكوين سلطة دينية تصارع خصوم النظام السياسي من جهة، وتقطع ألسن كل من يحاول تحريك الماء الراكد من جهة أخرى. كانت سلطة رجال الدين تحمي النظام من الغاضبين، وفي المقابل تحمي السلطة السياسية رجال الدين من محاولات الاستنارة وتجديد الخطاب الديني.. وهكذا عقدت الصفقة.
الصفقة التي أزهقت روح فرج فودة، وباركها الشيخ محمد الغزالي في قاعة المحكمة. الصفقة التي لاحقت الدكتور نصر حامد أبو زيد في محاكم الدولة، ودعت لتفريقه عن زوجته، نظراً لاتهامه بالردة.
مقابر مقدسة
اعتبر تروتسكي هالة القداسة التي يضفيها التلاميذ على قبور أساتذتهم هي محاولة لدعم سلطة التلميذ من سيرة الأستاذ، أو كما فعل رجال الدين في مصر مع الشعراوي بتحويله إلى رمز وواجهة للتدين الوسطي: "مدد للسلطة الدينية التي تسير على خطى الإمام المجدد".
لم يعد الشعراوي يمثل آراءه وأفكاره فقط -سواء اتفقت معها أو لم تتفق- بل أصبح رمزاً يمثل تلك الهوية الدينية التي أرادتها السلطة السياسية.
اغتيال الآلهة
لم ينجح أحد في إثارة الرأي العام حول آراء الشيخ الشعراوي أبداً، سواء كان رجل دين آخر أو أكاديمياً أو مجرد رأي شخصي لأحدهم.
المجتمع المنغمس في الإنكار يرفض الاعتراف بفشله، وهزيمته التي أفرزت أجيالاً كاملة لا تعبأ بأي قيمة أو مبدأ. ذلك المجتمع يحاول النجاة بآخر صنم في جعبته، وينكر أي محاولة لنقدٍ قد يطول الشعراوي، لأنه -ببساطة- آخر من تبقى لهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.