لم أحصل على رواية ثلاثية المماليك: أولاد الناس للروائية ريم بسيوني إلا بعد ما يزيد على العام من صدورها، وقد كنت مهتماً بالحصول عليها بناء على نصيحة أحد الأصدقاء. سبق لي قراءة كل رواية تصدرها ريم بسيوني ،وأُعجبت بكتابتها كثيراً، ولكنني أشفقت عليها وعلى نفسي من رواية تصل في عدد صفحاتها إلى ما يزيد على 700 صفحة، معظم روايات ريم بسيوني لا تصل إلى ثلث حجم هذه الرواية. لكن الرواية على طولها كانت شديدة الجاذبية والإمتاع. فعلى عادة ريم البسيوني تبدأ الرواية بداية صاعقة منذ صفحاتها الأولى فهي خلافاً لروائيين كثر لا تضيع الكثير من الصفحات في إدخال قارئها إلى عالم الرواية، وعادة ما يستفز الحدث الروائي القارئ ليتابع وقد نجحت في كل مرة أن تحقق الغاية من هذا الاستفزاز. ما إن أكملت الرواية حتى سارعت إلى موقع goodreads لأستطلع آراء القراء، وجدت أنها حازت على خمس نجوم وهو تقدير مستحق. انتقلت إلى مواقع أخرى مستطلعاً كيف كان استقبالها في الأوساط الثقافية، وجدتها قد حصلت على الكثير من الاهتمام، فقد نوقشت الرواية في أكثر من وسط ثقافي شبابي، ظهرت الكاتبة في برامج تليفزيونية عديدة. وكان الاحتفاء بالرواية واضحاً، وفي أحد هذه البرامج جلست المؤلفة تقرأ أحد فصول روايتها في مسجد السلطان حسن، المسجد الشاهق في جماله المعماري الذي استثار الكاتبة لدراسة الحقبة المملوكية، ومن ثم لكتابة هذه الرواية. الأحاديث التي تناولت الرواية في الإعلام دفعتني للتساؤل هل هذه الرواية رواية تاريخية؟ للحق أن الروائية قد استثمرت تاريخ الحقبة المملوكية والصروح المعمارية التي أنشأتها في بناء روايتها والاتكاء عليها لتثير فينا التأملات عن حياتنا المعاصرة. ولذا لم أشعر-رغم أن الرواية وظفت شخصيات حقيقية من التاريخ المملوكي- أنها رواية تاريخية وإن جعلت التاريخ وعاءها البطولة النسائية في أجزاء الروايات الثلاث مثلاً كانت لنساء من العامة وعلى الأغلب أن زينب وضيفة وهند كن شخصيات خيالية.
تصل الرواية بقارئها إلى إعادة تقييم الحقبة المملوكية،المماليك استطاعوا أن يحموا العالم كله من السقوط بأيدي المغول كما وحموا العالم الإسلامي من الصليبيين، وأيضاً لهم دور في حماية الحجاز من الهجمات البرتغالية فقد كانوا محاربين أشداء. إضافة إلى ذلك تشهد آثارهم المعمارية بأنهم كانوا ذوي ذوق فني مترف ولكن غلب على تصور الأجيال الجديدة أنهم ملوك غرباء دمويون ظلموا الشعب وأرهقوه بالضرائب وكنزوا الثروة والمال على حسابه، وهذا صحيح إلى حد كبير رغم أن ذريعتهم لمشاركة الشعب في المال كانت صحيحة إلى حد ما، وهي أن العسكر يتمولون لحماية مصر والشام من المحتلين الغرباء الذين ثبت أنهم كانوا يتصرفون كعصابات مجرمة تدمر كل حضارة وممتلكات، ينطبق هذا على المغول وعلى الصليبيين كما انطبق علي البرتغاليين الذين تلوهم، وأكثر ما أُخذ على المماليك من ظلم كان أيام حكمهم مصر نيابة عن السلطان العثماني، إذ أن تكلفتهم قد أصبحت باهظة على الشعب خاصة وأنهم فشلوا في حماية الشعب أمام العثمانيين وأمام نابليون. بداية ظاهرة المماليك في فهمي كانت يوم انتقلت قوة الدولة المركزية من الخلافة العباسية في بغداد إلى الدول المستقلة التي نشأت على حسابها، يتمثل ذلك في الدولة الطولونية وما تلاها في مصر والشام، معظم هذه الدول كان حكامها مسلمين غير عرب، ولعلهم فضلوا تكوين جيوشهم من أفراد من بني جلدتهم الأتراك على الاستعانة بالعنصر العربي الذي قد ينافسهم على الرئاسة. وهكذا بدأ استجلاب هذه العناصر التي جاء بها تجار الرقيق بعد اختطافهم أو شرائهم، ثم بدأ تحويلهم إلى مسلمين وتدريبهم على الفنون العسكرية حتى أصبحوا محاربين لا يُشق لهم غبار، وأهلهم ذلك ليستولوا على الحكم ويقيموا دولة المماليك. تقدم الرواية إعادة تقييم للعلاقة الملتبسة بين الحاكم والمحكوم وخاصة في مصر. محاكمة أي عصر بأثر رجعي تبدو هنا خالية من الإنصاف لأنها تعزل الحاكم عن سياق عصره وتحاكمه بناء على مقياس واحد، فالذي يمقت الديكتاتورية يرى أن حكام المماليك ومن تلاهم على عرش مصر كانوا ظلمة جهلة يستحقون اللعنات، بينما تظهر الكاتبة هنا أن هناك أوجهاً عدة للحكم وليس من الإنصاف أن نتجاهل مجالات أخرى كان أداء الحاكم المملوكي فيها متفوقاً، ولو تخيلنا مثلاً أن مصر استمرت تحت إدارة الحكم العباسي المركزي دون وجود المماليك لوجدنا أن المغول سيدمرون الحضارة في مصر كما دمروها في بغداد. قدمت الرواية صورة بليغة للحاكم المملوكي وفهمه للعدالة وإظهاره الولاء لقيم الدين أمام بعض العلماء. فقد كانوا يعتقدون أنهم بغير الخضوع الظاهري لسلطان الشريعة سيفقدون شرعيتهم. بل وأظهرت صوراً من التدين الروحي الحقيقي في تعاملهم مع بعض أشياخ التصوف. وكذلك في بنائهم للأوقاف والأسبلة. لم تنحز الروائية للصورة النمطية عن المماليك أنهم غرباء مغتصبون، بل أعادت تأطيرهم ضمن الشعب المصري، فهم يبدأون مماليك حكاماً وأمراء، ثم يأتي من نسلهم أولاد ناس، أي جيل نصف مملوكي نصف مصري، منهم الفنان الذي أبدع بناء مسجد السلطان حسن، التحفة المعمارية النادرة، ثم يصبح الجيل التالي منهم من العامة أي من الشعب المصري ويصبحون أبناء بلد، ويمارسون حياة أبناء البلد في الزراعة والحرف والفنون مثل ابن إياس أبي البركات مؤلف الكتاب الموسوعة في تاريخ مصر بدائع الزهور في وقائع الدهور. الأمير المملوكي سلار في الرواية يذكر لنا الفرق بين المماليك والعثمانيين رغم أن كليهما من ناحية العرق الإثني أتراك. فالمماليك أصبحت مصر بلدهم يحمونها ويشيدون العمائر فيها ويريدونها في صدارة العالم الإسلامي، لكن العثمانيين في حكمهم لمصر يجعلونها تابعة لبلادهم فتنقل الكثير مما في مصر من إبداع إليها، أليس سليم العثماني قد اصطحب معه ألفين من حرفيي مصر إلى الأستانة، بينما ظل سلار يبدع في كتابة لوحات الخطوط العربية ولا يعرف له موطناً غير مصر؟ يعادل ذلك فنياً في الرواية شعور الأمير المملوكي سلار بقيام قلاع بينه وبين زوجته التي يحبها لأنها ابنة خاير بك الذي خان المماليك لصالح بني عثمان، فيتركها وتتزوج غيره ويفضل هو أن يتزوج من هند التي تمثل له وطنه المصري.
لاحظت أن الحياة في العصر المملوكي استأثرت بمعظم اهتمام القراء ولكن الرواية أوسع من ذلك، فإضافة إلى تصوير العلاقة الملتبسة بين الحاكم والمحكوم فإنها قدمت -وخاصة في الحكاية الثانية- تصويراً بديعاً للعدالة، وكيف تبدأ من انحياز القاضي للمظلوم وتحديه للحاكم الظالم حتى يتحقق العدل. وحين يشيع العدل يحمي أول ما يحمي القائمين عليه، فهو الذي حمى القاضي وأبناءه في النهاية إذ استنقذه من السجن وأعاده إلى قضاء قوص ليستعيد الفتاة التي أصبحت زوجته من يدي أبيها الظالم، ثم ليصبح قاضياً للقضاة، ولكنه حين لم يستطع إنفاذ العدل وهُزم أمام السلطان الذي رأى أنه لن يقوى على الاستمرار في التحالف مع قاضيه في وجه الفساد استقال وتحول إلى التربية والتعليم، والعدالة قبل أن تكون أسلوباً للحكم هي تربية ينشأ عليها الأطفال حتى تسود مع الوقت قيم العدالة بين الناس، العدالة تجعل الحيوانات المفترسة كالضباع تتحول عن إيذاء البشر إلى حمايتهم. نجحت الكاتبة في إبراز العدالة كقيمة جمالية في الحياة تضاف إلى جمال العمائر والخطوط. تظهر العدالة في حياة المماليك حين ينصهرون بالتزاوج مع أهل البلد الأصليين، رأينا كيف برزت في حياة الأمير المملوكي محمد بعد أن ساد الحب علاقته بزوجته زينب ابنة التاجر القاهري وكذلك في حياة الأمير سلار بعد أن تحولت علاقته بهند من علاقة أمير بجاريته إلى علاقة أمير بحرة من أبناء الشعب، في الحكايات الثلاث تنتصر المرأة، النساء كما قالت المؤلفة هن من يدفعن الثمن في الحروب والكوارث رغم أنهن لا يشاركن في القتال، لكنهن هنا ينتصرن انتصار الجمال على القبح وانتصار العدل على الظلم بما يملكن من روح مقاومة صبورة كريمة تحول ضعفهن إلى قوة، وهكذا يتحول أزواجهن من غرباء يتعاملون مع الشعب معاملة المغتصب إلى حماة للعدالة مشيدين للعمائر سعاة للخير، وهنا ينتصر الوطن الذي يمثلنه على الغرباء الذين يفرضون عليه جبروتهم، وكمعظم روايات ريم بسيوني تنتصر المرأة بأنوثتها وقوتها الروحية، أي إننا لن نجد في هذه الرواية منهن من تمارس دورها في الحياة العامة مستقلة عن الرجل الذي تعيش في ظله، تفتقد دور المرأة العالمة بالشريعة مثلاً أو المقاتلة أو الآسية، وفي ظني أن ذلك العصر لم يخل من مثل هؤلاء كما أن المخيال الروائي قادر على خلق أمثالهن.
حافظت الرواية على قوتها عبر مسارها الطويل، والحوار فيها قوي جداً ومفعم بالمعاني والإسقاطات، لقد أنجزت الكاتبة عملاً روائياً عظيماً يضعها في مقدمة المشهد الروائي العربي، وأستطيع أن أقول مطمئناً إن هذا العمل تفوق على كل عمل فني سابق اتخذ من الحقبة المملوكية مادة لروايته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.