مرّت 10 سنوات وأقل من شهر على تخرجي ببكالوريوس دراسات الاتصال في جامعة وادي النيل.. هذه السنوات الـ10 مرّت عليّ وكأنها عام واحد أو عامين رغم كثرة الأحداث حُلوها ومرّها.
أقف اليوم وأنا مشتاق جداً لتلك الأيام، بكل تفاصيلها والمسافة الطويلة التي كنت أقطعها بين مدينتي عطبرة وبربر، طريق طويل شاق مزدحم ذرعته ذهاباً وإياباً لأربع أعوام، حفظته عن ظهر قلب، من محطة سوق عطبرة إلى أطرافها الشمالية ضاحية خليوة وكنور ودار مالي إلى المدخل الجنوبي لمدينة بربر حي الدكّة الشهير.. كل هذه المناطق والمحطات تعرفني كما أعرفها، فكثيراً ما عبرت بها متأملاً متفكراً أو مستمعاً للألحان التي تنبعث من أجهزة التسجيل في المركبات العامة، وربما ناعساً في كثير من الأوقات صباحاً وبعد الظهيرة.
ظاهرة النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي شائعة جداً في مجتمعاتنا، لكنني أراها طبيعية عندما يتذكر المرء الأيام الجميلة وخاصة فترات الصّبا وبداية عهد النضج والمسؤولية، ولكن بغير إفراطٍ أو استغراق في الحزن لدرجة الألم.. فحاليّاً أكتب هذه المقالة باستمتاعٍ شديد وتلوح لي تفاصيل تلك الفترة وأنا فخور جداً بما حققته من إنجازات.. وأهمها أنني تخرجت بتقدير عالٍ على الرغم من عدم تفرغي للدراسة، إذ كنت أعمل في الفترة المسائية لتوفير نفقات الدراسة، ومنذ أن أنهيتُ دراستي الثانوية لم آخذ أي مصروف مالي من الوالد إيماناً مني بمبدأ الاستقلال المالي والاعتماد على الذات، ليس هذا بحسب بل حاولتُ جاهداً مساعدة الأسرة في توفير بعض النفقات وقد كان لي ذلك ولله الحمد والمنّة.
كنت قد بدأت الدراسة الجامعية متأخراً عن رفاق دربي، إذ كانت تنازعني الرغبات بين المساقين العلمي والأدبي، إلى جانب خوضي لتجربة العمل كمتعاون في مجال الإعلام قبل الدراسة الجامعية بتلفزيون محليتي شندي والمتمة إلى جانب إذاعة ولاية نهر النيل. ولكنني في النهاية عندما انتبهت إلى مرور الزمن حسمتُ أمري وقدمتُ من داخل جامعة وادي النيل إلى بكالوريوس دراسات الاتصال في آخر يوم من أيام التقديم ضمن الفرص الممنوحة لأبناء الولاية.
لم تتأخر الموافقة على القبول كثيراً على عكس ما كنت أتوقع لأن الشهادة الثانوية كانت تخضع للمراجعة والفحص بمكتب القبول الاتحادي بعد تفشي ظاهرة الشهادات المزورة، وأذكر أني تلقيت إشارة القبول بعد أسبوعين تقريباً من أمانة الشؤون العلمية التي تقع في مدينة عطبرة التاريخية والتي عرفها العالم بأسره في الـ19 من كانون الأول/ديسمبر العام الماضي عندما انطلقت منها صافرة الثورة السودانية ضد نظام البشير.
موظفة الشؤون العلمية التي أفادتني بقبولي في كلية الدراسات الإسلامية والعربية طلبت مني مراجعة إدارة الكلية بمدينة بربر لإكمال مطلوبات التسجيل بأسرع ما يمكن لأن الدراسة بدأت بالفعل قبل أسبوعين!
مدينة عطبرة لم تكن غريبة عليّ ولم أكن غريباً عنها، فقد عرفتها منذ أن كنت طالباً بالمرحلة الثانوية، ولذلك أعرف معظم أحيائها العريقة كالداخلة والمقرن والموردة والسكة حديد وغيرها، أما بربر فلم أحظ بزيارتها من قبل رغم قربها من مدينة عطبرة.
بعد أن غادرت مبنى الشؤون العلمية، قررت الذهاب في صباح اليوم التالي إلى كليتنا في بربر لإجراءات التسجيل.. طوال الليل أخذت أفكر في كيف ستكون المدينة ذات التاريخ التليد، إذ إنها اشتهرت بكونها مركزاً تجارياً ضخماً تمر عبره قوافل الحج من وإلى الأراضي المقدسة عن طريق مدينة سواكن. كما أن بربر معروفة بأنها مدينة العلم والعلماء وتفردت بالتعليم الديني وتحفيظ القرآن الكريم وعلومه، أما في المجال الأدبي والثقافي والفني فقد قدمت للسودان الشيخ عبدالله البدري والشيخ القلوباوي وشيخ كدباس، وفي مجال الثقافة والفن قدمت الأساتذة عبدالعزيز داؤود، أنس العاقب، وود الفراش، علي كلمون، مجذوب أونسة إلى جانب البروف أحمد شبرين وغيرهم.
شكّلت بربر حضوراً تاريخياً وثقافياً لافتاً في الساحة السودانية ومنحتها كليتي العلوم الإسلامية والقانون بعداً علمياً إضافياً إلى جانب جامعة الشيخ عبدالله البدري التي افتتحت مؤخراً، والأخيرة تتميز بالتركيز على التخصصات العلمية لكنها تمزجها في الوقت نفسه بالعلوم الشرعية فأصبحت وجهة مفضلة للطلاب من داخل السودان وخارجه خاصة دول القرن الإفريقي إلى جانب طلاب من مصر واليمن وسوريا.
غادرت عطبرة في وقتٍ مبكر صباح اليوم التالي إلى بربر عن طريق المواصلات العامة، أخذت أتأمل القرى والمناطق الواقعة بين المدينتين.. خليوة، كنور، دار مالي، السعدابية، حتى وصلنا إلى المخيرف على مشارف بربر الحديثة ومن ثم ولجنا إلى وجهتنا بربر التي دخلناها من بوابتها الجنوبية حي الدكة العريق.
لم أجد اختلافاً كبيراً بين عطبرة والدامر وبربر، بخلاف أن الأخيرة أصغر قليلاً من شقيقاتها لكنها ربما تتفوق عليهما في المكانة التاريخية، سألت رواد السوق مباشرة عن مقر كلية العلوم الإسلامية والعربية فوصفوا لي مواصلات القدواب في قلب السوق، ركبت السيارة الصغيرة التي نسميها في منطقتنا "البوكس" فسارت بنا مسافة قصيرة على الأسفلت ومن ثم انحرفت في شارع ترابي لبعض دقائق، ثم توقف السائق والتفت ناحيتي قائلاً: "وصلت إلى الجامعة"!
نزلت ولكني لم أر أي مبانٍ جامعية، ولعل السائق لمح في عيوني الاستغراب، فأشار لي ناحية قضيب السكة حديد. وقال: "الطريق من هنا"، لم تكن المسافة بعيدة على أية حال، ولم تكن إجراءات التسجيل صعبة أيضاً ففي دقائق معدودة أنهيت المعاملة، وكان من حسن الحظ أنني علمت لحظتها أن هناك محاضرة ستبدأ بعد دقائق لقسمنا بعنوان "التحرير الصحفي" التي كان يقدمها لنا أستاذنا الفاضل الدكتور محمد فرح، دخلت المحاضرة مباشرة بعد الاستئذان، وكانت فرصةً رائعةً للتعرف على الزملاء ومجتمع الكلية، بعدها تعرفت عن طريقهم على قاعات الدراسة والمكتبة والكافتيريا الوحيدة في الكلية.
الأيام كانت تجري بسرعة كالعادة، وتحمل الحياة الجامعية العديد من المواقف الصعبة والطريفة أحياناً، فأذكر ذات مرة أنني دخلت الكلية في أحد أيام الامتحانات مرتدياً الزي القومي السوداني "جلابية وطاقية"، فقام أحد أفراد الحرس الجامعي بإيقافي معتقداً أنني أحد الزوار، لكنه ضحك بشدة عندما أبرزت البطاقة الجامعية.. كنت يومها متحمساً جداً لامتحان مادة الترجمة الصحفية وعندما وُزعت الأوراق في القاعة الكبرى جاء إليّ أحد المراقبين وتحدث معي عن أن الزي القومي الذي أرتديه غير مكتمل، موضحاً أنه كان يفترض أن أضع "العمة" فوق الرأس أو "الشال" على الكتف ليكون زياً كامل الأناقة! لكن مراقباً آخر تدخّل ضاحكاً وقال له: "ليس هذا ضرورياً.. بهذه الطريقة ستنفّره وغيره من ارتداء الزي الشعبي".
وأتذكر كذلك أنني كنت ذات يوم مرهقاً جداً جراء السهر فزوّغت من المحاضرة الأخيرة، إلى السوق لتناول قهوتي المفضلة عند صاحبة القهوة، فبربر كغيرها من مدن السودان تشتهر بوجود ستات الشاي اللاتي يقدمن المشروبات الساخنة على الهواء الطلق، ولكن لسوء حظي ما إن جلست عند صديقتنا تهاني وألقيت عليها السلام والتحية إلا وجاءت سيارة الكلية تقل عدداً من أساتذتنا الكرام، وكان معظمهم يعرفونني حق المعرفة فقد كنتُ من الطلاب المتميزين أكاديمياً رغم عدم تفرغي التام للدراسة، الموقف المحرج يكمن في أن أحد أساتذتي التفت إليّ أمام الموجودين وقال لي ما معناه أنّ لديك محاضرة يا محمد في الكلية وأنت تتسكع وتشرب القهوة في السوق؟
صراحة، وددتُ لو أنه طلبني على انفراد وعاتبني على الخطأ الذي ارتكبته، بدلاً من هذا الأسلوب المحرج. ولكنني في تلك اللحظة تمالكت نفسي بشدة، وأخذت أرتشف القهوة دون أن أحس بطعمها المميز، وتمشيت بعدها ثم عدت راجعاً إلى تهاني وطلبت القهوة من جديد.. وأذكر أن الشابة طيّبت خاطري آنذاك وقالت لي لا تغضب.. الرجل ذو ضمير أبيض.. أراد أن ينبهك ولكن فقط خذله أسلوبه.. أحب أن أذكر أن هذا الموقف لم يغير أبداً من علاقتي المتميزة مع أستاذي فقد ظللت أكن له كل الاحترام والتقدير ولكل أعضاء هيئة التدريس والعاملين في الكلية والجامعة.
الموقف الثالث.. حدث في إحدى الرحلات الترفيهية التي تنظمها الروابط الطلابية، أحد الشباب أخذ يؤدي أغنية "سيد محكر الديوان" وهي من الأغاني التراثية الشهيرة لدى قبيلة الجعليين، وقِيلت كلماتها بالتحديد في "الحسن ود ضبعة" عُمدة الجوير، بالطبع تفاعلتُ مع الأغنية، فقال لي أحد الزملاء: "رأيك شنو تنجلد"؟ يقصد عادة الجلد بالسوط عند الجعليين، فقلت له بثقة شديدة: "أبشر جيب السوط بتاعك"، ففاجأني بإخراج "سوط عنج" طويل من تحت السجادة، عندها لم أجد مجالاً للتراجع، خاصة أن الحِسان حاضرات و "الشردة" عيب وفضيحة أمامهن! كان نصيبي 3 سيطان تقريباً تحملتها بمنتهى الثبات من دون حراك أو إظهار للوجع.
كل هذه المواقف في خاطري وغيرها من المواقف مع أساتذتنا الكرام الذين أُدين لهم بالفضل بعد الله، وكذلك الزملاء الأعزاء شركاء الدفعة 2004 التي صنفتها إدارة الكلية ضمن الدفع المتميزة، ولذلك كلّما أستمع أو أرى أحداً يشكو من صعوبة الحياة الجامعية أجد نفسي أبتسم وأقول له هذه أجمل أيام حياتك مهما كانت مُرة أو صعبة.. وأذكر أنني قلت هذا الحديث لعدد من طالبات وطلاب جامعة مقلي في إثيوبيا صيف العام 2018.
ستظل عاصمة الميرفاب "بربر" في الخاطر والوجدان بكل أحيائها الجميلة ومعالمها من الدكة وناديها ومركز الطالبات جنوباً، إلى السوق ومطعم الفول الشهير "نسيت اسمه" ومطعم البليك، وقهوة الرياضيين، فضلاً عن قهوة تهاني ومريم وغيرهما، وأحياء بربر العريقة.. الشُّرام.. المخيرف.. القيقر.. ﻧﻘﺰﻭ.. ﺣﻮﺵ ﺍﻟﺪﺍﺭ.. ﺍﻟﻘﻮﺯ.. ﺍﻟﻤﻨﻴﺪﺭة.. القنجارة.. الهجانة.. وبالطبع ﺍﻟﻘﺪﻭﺍﺏ الضاحية التي بها كليتنا العامرة إلى جانب شقيقتها كلية الشريعة والقانون، وجامعة الشيخ عبدالله البدري.
هي بربر تجسدت فيها حكايات وأوراق التاريخ لمواقف وذكريات لن تتكرر، أما أهل بربر فلن أستطيع أن أوفيهم حقهم.. كرم وعطاء وبشاشة وترحيب بلا حدود بكل القادمين من أبناء السودان وخارجه فالكل مرحب به طالما وصل بربر.. ولعلّ أبلغ من وصف المدينة ابنها الشاعر الراحل علي همشري في قصيدته التي خصصها لحي الدكة بالتحديد، وغنتها له الشابة فهيمة عبدالله:
لو أنسى ما بنساك.. يا بربر الدكة
مهما الزمن طال بي.. أو بعدت السكة
سنوات تعدي تفوت.. جواي حنين منحوت
والذكرى في قلبي.. نيرانا ما بتموت
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.