في سنٍّ مبكرة جداً اصطدمت بالتلفزيون، وسحرتني الصورة، وترسَّخ في ذهني أن حياتنا بأكملها تقريباً تخرج من هذا الصندوق لتتلون بألوانه وتتكلم بلغته، وتتشكل الأحلام والوقائع بالخيوط التي ينسجها، فالجميع كان غارقاً حتى الأخمص في التعرض له.
ولكن دائماً هناك استثناءات عجيبة، لم تكن الصحف والمجلات يومها في سنِّ الخَرَف والشيخوخة كما هي عليه اليوم، ولكن كان من الصعب إيجاد قارئ متمرس ومثقف لإزاحتك عن إدمان الشاشات وضجيجها، وكنت أجد كثيراً من مجلات الأدب الصغير والكبير والمقالات البيضاء على صحائف صفراء، وهذه أمي تجمع وتقرأ ما تجده في مجلتي "العربي"، و "زهرة الخليج" ومجلة "سيدتي"، وكانت البضاعة كلها تأتي من الخليج، ولكن الكُتاب والنقاد والمثقفين هم أنفسهم من القاهرة ودمشق وتونس، وهذه الجغرافيا التي احتكرت الثقافة وداعبت الأفكار فترات طويلة وبإنتاجات ضخمة.
والحديث في الأدب كان موغلاً ويستحوذ على ولع شريحة واسعة جداً من القراء، فالكتابات لم تستطع أن تتحرر من الخوض في طه حسين والشعر الجاهلي، وسفّود الرافعي في صالون العقاد الثقافي، ومي زيادة والأربعين عاشقاً، والصحف كانت أيضاً تتنفس الأدب وتتغذى به وتنام على غزله وشجواه.
ولا عجب في ذلك، إذ كانت الصحافة قد تجلَّت عند العرب -كما يقول أديب مروة- في طرق الإعلام والأخبار ورواية الأشعار وكتابة التراجم والسير ووضع المذكرات، فقد كان صعباً أن تدرك الصحف ذاتها بعيداً عن الأدب، وأن تجد خطاباً وأسلوباً مختلفاً ومغايراً عن خيالات الشعراء وسردية الأديب، وأنا أردد دائماً في نفسي أبيات طرفة بن العبد التي اشتهر بها:
ستُبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار ما لم تُزَوَّدِ
وأسأل: أشاعر قال هذا أم صحفي يستقصي الأخبار والوقائع؟
والشاهد من هذا أن كثيراً من التفاصيل الصغيرة التي تبدو هامشية، ستقودنا حتماً إلى مصيرنا المشتهى.
وبدأ الأدباء والشعراء يهاجرون من صفحات المجلات إلى فسحة الأثير وجاذبية الصوت ونجومية التلفزيون وبطولاته، وتحوَّل كثير منهم إلى صحفيين لامعين ومذيعين نبلاء بلغة فصيحة وأسئلة ملتهبة وجريئة.
وكنت أتابع الأديب والصحفي في حوار لغوي مقدس ولا أفرّق بين لسان الأول ورابطة عنق الثاني، لأن كليهما كان غارقاً في الجمال، ومحمود درويش هو الشاعر صاحب النزعة الطهورية والقصيدة الحائرة التي تظللها الشكوك والاحتمالات في كل بيت ووتر، كان يتعملق في التلفزيون بحضوره الطاغي وكلماته السابحة شرقاً كالبجعات الجميلات، كان يتعملق حتى لا يبقى من المحاور والحاضرين إلا الظل.
قلت في نفسي: يجب أن أستوعب كيف يتجاوز الأديب صحفياً فيبتلع كل الممنوعات من الأسئلة والشكوك والرؤى والأوهام واتساع حدقات العين والأعصاب المتشنّجة والعَرق البارد يتصبب عند الاصطدام بالحقائق والوقائع، ثم ينقلب على كل هذا بقصيدته، مخترعاً ببراعةٍ ضفة أخرى لتسكين الأوجاع؟
ولست أعرف كيف ينبري الصحفيون بشجاعة الرماة، المتوشحين بأسئلتهم اللاذعة والمتوحشة، في محاولات حثيثة لإرباك الخيّالة وخيالاتهم الجامحة، فالأديب صعب المراس إذا حلَّق بعيداً بين التأمل والتفلسف، والصحفي لا يغادر التفاصيل اليومية الصغيرة، فلهذا قيل كثيراً إذا ما اجتمع كلاهما في حوار: كاتب كبير وصحفي صغير، والحقيقة أن العلاقة بينهما لطالما كانت معتلَّة مريضة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.