"الوحدة"، أبحاث علمية، ودراسات نفسية،
وأفلام وأعمال أدبية وبرامج ومحاضرات تتحدث عن هاجس الإنسان الأهم ربما حالياً، في
عالم مترامي الأطراف يزداد ازدحاماً يوماً بعد يوم، تزداد وسائل التواصل
الإلكتروني بين أفراده بمعدل يتماشى باضطراد مع ازدياد إحساسهم بالعُزلة، بفردانية
كل واحد منهم في هذا الزحام، زحام من المعلومات والخبرات ينهال على كل واحد منّا
يومياً عبر مصادر الإنترنت المختلفة، بالتحديد منصات التواصل الاجتماعي.. البشر
المتفرقون في الواقع يميلون للتجمُّع في عالمهم الافتراضي، وخاصية
"المجموعات" التي يقدمها "فيسبوك" تُعتَبر المثال الأهم على
هذا في وطننا العربي، خاصةً المجموعات "السرية" أو المغلقة، التي تضم
رجالاً فقط، أو نساء فقط؛ فيشعر أعضاؤها بالخصوصية، ويبدأون في تبادل خبراتهم،
ومخاوفهم بالتحديد من العلاقات العاطفية، ومشاكل الارتباط العاطفي والزواج.
لو كان الأمر يقتصر على تبادل الخبرات، والتفكير، ما وُجدت المشكلة.. الأزمة بدأت بظهور تطبيقات تسمح لمستخدميها بإرسال مشاكلهم دون أن تُعرّف هوية مُرسِلها؛ فبدأ الكثيرون يعرضون مشاكلهم العاطفية، وأدق أسرار بيوتهم، ومشاكلهم في الفراش، على الملأ في "الكروبات السرية"؛ طامعين في إجابات تُطفئ حيرتهم.. وتُشعِرهم ببعض الأنس في وحدتهم.
وتبدأ المصيبة في التشكُّل.
(2)
مُعظمنا يتزوج دون أن يفكر بجدية لماذا يُقدِم على هذه الخطوة بجدية.. هكذا نشأنا، وهذا ما وجدنا عليه آباءنا؛ تُنهي دراستك؛ فيبدأ الجميع من حولك في النظر إليك مستفهمين عن الخُطوة التالية: متى تتزوج؟
لا يهم مدى جاهزيتك النفسية لخطوة تغيير عميقة في حياتك كخطوة الارتباط بشخص لما تبقى من حياتك.. تحقق مصر واحداً من أعلى معدلات الطلاق في العالم، آلاف من الشباب ينفصلون بعد عام أو اثنين أو خمسة، يستفيقون من أوهامهم عن الزواج، وعن الجنس الآخر بشكل عام، على مرارة التجربة التي دخلوها دون وعي، دون نضج حقيقي.. وهكذا تتحول الخُطوة التي من المفترض أن يبدأ معها استقرار الإنسان النفسي والوجداني في صُحبة شريك حياته، إلى "ورطة" يسعى صاحبها للخلاص منها، وإن كان الثمن أطفالاً سيُربون في بيئة غير صحية غالباً، دون ذنب سوى أنهم أبناء لآباء لم يفكروا جيداً قبل أن يجلبوهم إلى العالم.
تمتلئ مجموعات الرجال والنساء السرية عبر "فيسبوك" بقصص مُرعبة تكشف انعداماً تاماً للنضج عن معظم المتزوجين حديثاً.. تطالعك أسئلة واستفسارات تنم عن جهل مُطبِق لدى المعظم بواجباته تجاه شريكه، بل بجهل بمفهوم "الشراكة" هذا أساساً؛ فقد صار مشروع الشراكة الزوجية صراعاً، تؤججه منصات رخيصة، تجتذب الرجال أو النساء على حسب، مُصوِّرين لكل طرف أن الارتباط العاطفي معركة ينتصر فيها الأكثر قسوة وحدة والأقل تعاطفاً مع آلام الآخر؛ كأن الإنسان من المفترض أن يشارك فراشه مع مَن يتوقع منه الخديعة في أي لحظة!
رجلٌ يفتِّش في هاتف زوجته؛ فيجدها تشتكيه لصديقتها، ولا يعجبه ما قرأ على لسانها عنه؛ فيسأل الرجال عبر "الكروب السري": "ماذا يفعل؟"؛ فتنهال عليه تعليقات يدل معظمها على انحرافات نفسية غريبة؛ فهناك نصائح بأن يضربها، و"يكسر نِفسها" حتى لا تكرر ما فعلته، وآخر ينصحه بأن يهملها تماماً ولا يعطيها حقوقها في الفراش، وأحدهم ينصحه النصيحة الجُهنمية: "تزوج عليها حتى تعرف في أي جنة كانت تعيش".. وهكذا قد ينهدم البيت إذا ما استجاب السائل لأي نصيحة مما أتاه من ردود، تلك الردود التي خَلَت تماماً من شخص واحد يقول له إن التفتيش في هاتفها حرامٌ لا يجوز ارتكابه دينياً، وفعل يدل على انعدام كامل للثقة، في نفسه قبلها، وإن عليه أن يترفع عن هذه الصغائر، ويبحث عن حلول جِدية للمشكلات بينهما بدلاً من اللجوء لنقيصة كهذه، ويكشف أسرار بيته على العامة، لناس لا يعرفهم حتى.
وعلى "الكروب السري النسائي الفُلاني" تنهال النصائح على أعضائه من النساء عن الرجال الملاعين الكذّابين دوماً؛ فلا رجل يفعل شيئاً جيداً إلا إن كان يخفي مصيبة، ولا رجل يستحق التضحية لأنه سيرد لكِ ما قدمته بأسوأ أشكال الخيانة.. كل الرجال مُذنبون في المطلق تقريباً كأنهم الشياطين، دون محاولة جادة للفهم أو النقاش.
مجموعات هدفها الظاهري تبادل الخبرات الإنسانية فيما يخص العلاقات العاطفية، واكتساب الأنس بين أعضائها ولو كان في صورة افتراضية، لكن مع المتابعة ينكشف لك أنها تتجه بالتدريج لأن تصبح ساحات للكراهية ونشر الخوف؛ خوف يتسلل للمتابع خاصة إذا ما كان ما زال أعزب؛ خوف من فكرة الزواج والارتباط بشكل عام، خوف من مشاعره نفسها، وهلع من أن يميل قلبه لأحدهم؛ فيُكسَر بكل هذه الصور المُهينة.
(3)
الإنترنت عالم جذّاب من الكذب الذي تتخلله بعض الحقائق، لكن بعضنا ينسى هذه الحقيقة وهو يتعامل معه، خاصة فيما يخص العلاقات الإنسانية، والعاطفية بالتحديد، وما ينشره الناس عن أنفسهم عبر منصاته المختلفة.. تصيب الخيبة الإنسان وهو يطالع ما ينشره غيره عن "علاقته المثالية" في العلن؛ فيشعر كم أنه غير سعيد؛ لأنه لم ينل هذه العلاقة المثالية التي يراها أمامه على شاشة الكومبيوتر أو الهاتف.. متناسياً أنه يطالع عالماً من الكذب المُجمَّل المتناسق، يخفي من الحقيقة أضعاف ما يظهر.
انعدام النضج عند الكثير مِنّا وهو مُقبل على خطوة الارتباط قد يبرر الأمر؛ فنحن لا نتلقى حتى في بيوتنا -أو من خلال وسائل الإعلام حتى- الكافي من التوعية عن الزواج وحقوقه وواجباته، وطبائع الشريك الآخر في العلاقة.. نُلقَى في خضم التجربة دون مُعين حقيقي؛ فنبحث عن إجابات لدى أُناس لا نعرفهم حتى، متخفين خلف أقنعة، نبث شكوانا وحيرتنا عبر "كروبات" فيسبوك، وننتظر الحلول؛ حلول قد تأتي من شخص منحرف نفسياً، هو نفسه لا يدرك هذا عن نفسه، أو قد تأتي من شخص مكبوت، لا يقدر على فعل 1% مما يدفعك لفعله من تدمير لعلاقتك.
ربما يكون الحل لمشكلتك العاطفية لدى صديق تثق فيه، وتثق في إخلاصه لكَ وفي سوائه النفسيّ، وربما تجد ملاذك عندما تبحث عنه بنفسك؛ فتقرأ وتُنقِب لتجد حلاً لما يعتمل داخلك من صراع، تبذل بعض الجُهد لتفهم نفسك وشريكك، وربما تلجأ في النهاية لمتخصص يُعينك بعلمه وخبراته على ما لم تقدر على فك لغزه.. تكثر الحلول، لكنها غالباً ستأتي بعيداً عن عالم يغذيه الخوف، مثل عالم المجموعات السرية إياها هذا؛ فالخوف يؤذي صاحبه أكثر من أي مخلوق آخر.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.