أردت الخلود إلى النوم ليلة أمس، إلا أن طوفان ذكرياتي معك أذهب النعاس من عيني، فقررت أن أكتب إليك بعد انقطاع خمس سنوات متواصلة عن الكتابة مذ أن تركتك بدون سلام أو وداع.
إلى أكثر الرجال مهابة ولطفاً.. إلى حبي الأول وعشقي الأبدي..
إلى عزِّي وفخري وسندي.. إليك أبي الجميل.. يا حبيباً ما زال صوتك في أذني يطربني بأغنيتك الخاصة لي التي ألّفتها ولحنتها مشاعر أبوّتك الجميلة مع صفيرك العالي كنوع من الموسيقى بين الكلمات أغنية "العسل النحل الفلفولة"، وأغنية "يا عسل أبوكي"، مازلت أحفظها بلحنها وكلماتها وصفيرها في كل ذرة في كياني حتى إنني أسمعها في خاطري تغنّيها لي وأنا أكتب الآن!
ليته كان هناك كاميرا ترصد وتسجل سعادتنا وجمال طفولتنا معك يا أبي.. الكلمات لا تسعفني في التوصيف، لكني سأحاول جاهدة.
أتذكر ضحكي خجلاً وأنا أركب خلفك الدراجة منذ أكثر من عشرين عاماً، حيث أنا بالصف الأول الابتدائي وأنت تُغني لي أغنيتي الخاصة، فكل واحد منا له أغنيته، وأقول لك بعد تنهيدة: "غنِّي لي غيرها يا بابا".. فتضحك بصوت عالٍ ومن ثَم تبدأ بنفس الأغنية.
نعم، نجحتَ في حفرها في ذاكرتي وتغلغلت في كل ذرة في كياني ووجداني.. نجحتَ أن تجعل جُل دعواتي لك، وأبكي لله مخلصة في الدعاء: "ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً" شاكرة له عظيم نعمته عليَّ بوجودكما.
أبي ومَن مثل أبي نال من اسمه كل الجمال؛ فهو جمال في حبه، جمال في حزمه، جمال في عطفه ورحمته، جمال في غضبه وشدته، جمال في أبوّته التي نال منها كل طفل لمحته عينك.
"مفيش حد في الدنيا دي كلها أحب إنه يكون أحسن منّي إلا انتو".. "كل واحد منكم بالنسبالي قصر بابنيه.. أبيع هدومي وكل ما أملك عشانكم.. انتو راس مالي وكل ثروتي في الدنيا".
كلماتك تلك لا أنساها ولن أنساها أبداً يا كريم العطايا وجزيل الإحسان.
أساليب أبي في تربيتي وإخوتي الخمسة لا تُقارن ولا تُقال، فلأبي مدرسته الخاصة في التربية، أشبعنا حباً وحناناً وعلماً وأدباً وأخلاقاً، أساليبه تُعاش لا تُحكى ولا تُكتب، أساسها الحب والفهم والعطاء بكل الرضا بلا حدود.
مازال يوم الخميس أسعد يوم لي في الأسبوع، أنتظره ليذكرني بمغامراتي معك وباليوم الأجمل لبيتنا، لا أدري من أين أبدأه، يوم كله فرح ومرح وسهر وسمر شعر وقراءة، ضحك إثر لعب، ولهو وبكاء إثر قرآن وسنة، كل ذلك في يوم واحد.. إنه يوم خاص جداً لكل فرد في أسرتنا، الكلام عن برامجه يطول، أذكر شيئاً منه باختصار.
سأبدأ بمرورك على مدرستي بعد انتهاء عملك، لتأخذني مبكراً وقبل انتهاء اليوم الدراسي "المرواح" تُسلم على المُعلمين والناظر بعد أن تسمعهم كلاماً جميلاً شكراً وعرفاناً لتعليمي ومدى حبي لهم حقاً كان معلميّ رائعين في تلك الفترة.
ثم تذهب إلى فصلي فأخرج بكل فخر وسرور أمام زملائي بصوتٍ عالٍ يرج الفصل وربما المدرسة "بابا.. بابا" فأجري إليك وتحتضنني وتُقبلني، ثم تلقي السلام على معلمي الذي يسلم عليك بكل احترام ومهابة لك ويدور بينكم حوار خفيف، ثم تستأذنه لي بالانصراف معك قبل انتهاء الحصة!
ليستمر ذلك الخميس الجميل بهذا الشكل طيلة مرحلة الابتدائية.
أركب خلفك الدراجة وتبدأ في حوارك الجميل "عملتي إيه النهارده حبيبة بابا؟" فأحكي لك يومي، ثم تبدأ فقرتك الغنائية، فالطريق للبيت طويل، وتغني لي أغنيتي الخاصة تبدو لي تلك الدراجة آنذاك كحصان أبيض تمتطيه أميرة خلف أبيها.
خمس سنوات لم أجلس معك، لم أتحسس روحك العطرة عن قرب، خمس عجاف لم ألمسك يا أبي!
خمس سنوات عصفت بي الريح بما لا تشتهي به السفن، فأنا بعيدة عنك، اكتويت بنار الشوق والفراق والألم، فهمت ما تعنيه لوعة القلب يا أبي كان أشدها وأقساها.. يا سندي لا أستطيع من دونك ما عُدت أحتمل.
أعلم أن دعواتك تصاحبني في كل صباح، في كل مساء، في كل نهار وفي كل عتمة، أشعر بدعواتك في وقتها فأجدني أتمتم مع نفسي: "اللهم آمين يا أبي"، فاللهم آمين أن يجمعني بك في الدنيا على خير، واللهم آمين ألا يكتب لكل أب مثلك بعداً عن فلذات كبده، ورضوان الله عليك يا أبي في الأولين والآخرين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.