على مدى ما يزيد عن عشرة أيام تصحو واشنطن وتنام على أحاديث المساعي الجدية التي يتخذها الديمقراطيون من أجل عزل ترامب بعد اجراء تحقيقات بشأن مكالمة الأخير مع الرئيس الأوكراني زيلنيسكي والتي ألمح فيها عن رغبته لزيلنيسكي بإعادة فتح التحقيقات في مزاعم فساد لهانتر ابن جون بايدن نائب الرئيس أوباما والذي يعد أبرز منافسيه المحتملين من الديمقراطيين في الانتخابات الرئاسية، والتي كشف عنها أحد الأفراد التابعين لجهاز الاستخبارات الخارجية، ولم يشكك فيها الجهاز ودفعت البيت الأبيض للكشف عن نص المكالمة والاعتراف بحدوثها.
وعلى الرغم من أن الحديث عن مسألة عزل ترامب كان متداولاً من قبل، على خلفية تحقيقات لجنة مولر في مدى تورط ترامب مباشرة في التدخل الروسي بانتخابات 2016 الرئاسية، فإنه اتخذ طابعاً جدياً هذه المرة؛ بعدما قادته رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بنفسها بعدما كانت تعارضه بعد صدور تقرير لجنة مولر الذي لم يدنْ ترامب شخصياً، لكنه طال عديداً من معاونيه، وتحدث عن معوقات في أثناء سير التحقيقات.(صورة نانسي)
تغيُّر موقف بيلوسي لم يكن المؤشر الوحيد على طابع الجدية، فما أعلنه جونثان هوفمان المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، في مؤتمر صحفي، أمس الخميس، بأن المجلس القانوني/الاستشاري لـ "البنتاغون" قد طلب من الإدارات الأخرى داخل وزارة الدفاع جميع الوثائق المتعلقة بالمساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا، على خلفية التحقيقات التي بدأتها لجنة الاستخبارات بمجلس النواب- يعد من أقوى المؤشرات على أن المسألة هذه لها طابع مختلف عن الحروب الإعلامية السابقة حتى مع اعتبار هوفمان أن هذا مجرد إجراء استباقي عادي في الأمور ذات الأهمية، وأن وزير الدفاع مارك أسبر لم يكن حاضراً أو مشاركاً في المكالمة.
وبالطبع فإن هذا سيشكّل إحدى أدوات الضغط على ترامب، ولو إعلامياً، فالمساعدات العسكرية وإيقافها ومنحها يتم من خلال استشارة الرئيس لـ "البنتاغون" وأخذ رأيه الفني وتوصياته، وهو الأمر الذي قد يعني دخول "البنتاغون" على الخط ولو بشكل غير مباشر، ليؤكد أو ينفي ضمنياً ما إذا كان الرئيس يتلاعب بمقدرات الأمن القومي في المناطق الحساسة والقابلة للاشتعال كأوكرانيا من أجل المساومة على منافع شخصية ولو كانت سياسية، وهو ما سيحطم من أحد أعمدة ترامب التي يعتمد عليها في مغازلة الناخبين والمتعلقة بالوظائف والاقتصاد من جانب وحماية الأمن القومي من جانب آخر.
أهداف الديمقراطيين؟
لذلك فإن الحديث الآن يدور حول الأهداف والفوائد التي يتطلع إليها الديمقراطيون من إصرارهم على عزل ترامب في الوقت الحالي، واتخاذهم تلك الإجراءات العملية الرسمية، على الرغم من شكوك في جدوى العملية واعتبارها نوعاً من المغامرة السياسية التي قد تكلفهم انتصار ترامب عليهم شعبياً. هذا فضلاً عن تساؤل مهم وهو: ما هي أوراق ترامب العملية في مواجهة هذا؟
بالحديث عن الأهداف، فإن أولها هو الضغط على ترامب خلال عام الدعاية والمناظرات الانتخابية قبل التصويت الحاسم لاختيار رئيس أمريكا القادم في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وهو ما قد يسهم في الاستمرار في تقويض شعبية ترامب المتراجعة حسبما سجلت نتائج عدة استطلاعات رأي مختلفة هذا العام حول أدائه عموماً وفي قضايا الاقتصاد خصوصاً، مثل الاستطلاع الذي أجراه كل من جريدة الـ "واشنطن بوست" وشبكة "إيه بي سي"، حول أداء ترامب الاقتصادي والمخاوف الاقتصادية للمواطنين والذي أظهر أن 35% من الأمريكيين راضون عن أداء ترامب مع الصين، وأن 60% لديهم مخاوف من انكماش اقتصادي محتمل
بينما سجَّل استطلاع أجري في أغسطس/آب الماضي، لمركز غالوب، تراجع شعبية ترامب، حيث وافق 42% فقط على أداء ترامب، وهو ما لم يبتعد عن استطلاع رويترز في أبريل/نيسان الماضي، والذي كشف عن تأييد 37% فقط من البالغين لترامب.
ثاني تلك الأهداف هو محاولة إحداث تصدعات داخل الحزب الجمهوري، الذي يبدو حتى الآن مصطفاً خلف ترامب في جميع معاركه مع الديمقراطيين، ويتحسب نوابه لانتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية، وهو ما يعني ارتباطهم بشعبية ترامب بين القواعد الصلبة للحزب؛ ومن ثم فإذا ما نجح الديمقراطيون في التأثير أكثر على شعبية ترامب وإظهار عدم جدارته للحفاظ على الأمن القومي الأمريكي وتلاعبه به، فإن مستقبل الجمهوريين سيكون أيضاً عرضة للخطر كأحد تداعيات ما سيجري لترامب حينها، وسيكونون في مأزق سياسي حقيقي.
ثالث تلك الأهداف هو تحويل ترامب إلى خانة رد الفعل ووضعه تحت ضغوط طوال الوقت وتهديد مستمر؛ نظراً إلى أن ما أظهره الديمقراطيون حتى الآن يكشف أنهم سيسعون للضغط من أجل الكشف عن مكالمات أخرى لترامب مع قادة دول أخرى، مثلما أشار آدم شيف رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس النواب الأمريكي، هذا مع احتمالات أن تتزايد التسريبات وتتشعب القضايا، بعدما أظهرت صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية أن ترامب سعى للتشكيك في نتائج تحقيق لجنة مولر عبر رئيس الوزراء الأسترالي، بمعرفة المدعي العام وليام بار؛ ومن ثم تكبر كرة الثلج أكثر وأكثر خلال سير التحقيقات بما يمكّنهم من الحصول على أدلة أخرى دامغة على عدم صيانة ترامب لأمن أمريكا أو سماحه لدول أخرى بلعب أدوار محورية في شؤون أمريكية داخلية.
أوراق ترامب
خلال الأيام العشرة الماضية، قام ترامب بجملة من السلوكيات يمكن أن يُستنتج منها الأوراق التي يطمح إلى استخدامها لمواجهة مسألة العزل وتقليل تداعيات كُرة الثلج التي تكبر، خاصة بعد طلب مجلس النواب من محاميه الشخصي رودي جولياني تقديم وثائق تتعلق بالقضية.
أولى هذه الأوراق هي سعي ترامب لاستثمار عداء المحافظين للديمقراطيين، من أجل الاستناد إلى دعمهم الإعلامي، خاصة من شبكة فوكس نيوز التي تعد واحدة من كبرى الشبكات الإعلامية في أمريكا، والتي وصل العداء بينها وبين الديمقراطيين إلى حد منعها من تنظيم أي مناظرة رئاسية لمرشحي الحزب، وهي القناة التي اختصها ترامب بمداخلات هاتفية ويظهر عليها بشكل متكرر محاميه الشخصي.
ثاني هذه الأوراق كان توصيف ترامب لما يجري بأنه عملية احتيال سياسية ومحاولة انقلاب، ثم أتبع ذلك بإعادة نشر تغريدة عبارة عن اقتباس للقس الشهير روبرت جيفيرس، تتحدث عن أنه إذا نجح الديمقراطيون في إزاحة ترامب من منصبه فإن ذلك "سيُحدث شرخاً في الأمة، على غرار الحرب الأهلية، لن تشفى منه أبداً".
هذه التصريحات أعادت إلى الأذهان تقارير صحفية كثيرة نُشرت عقب فوز ترامب بالانتخابات الماضية وخروج المظاهرات ضده تتحدث عن حالة الاستقطاب العميقة في المجتمع الأمريكي، ومن ثم فإن ترامب يرسل رسالة، مفادُها أن تحريض أنصاره وتهديد السِّلم الأهلي أحد الأثمان التي ستُدفع من جراء ما اعتبره "تحرشاً" من مجلس النواب ضده، وهي رسالةٌ عنوانها ليس الديمقراطيين ولكن المؤسسات الأمنية الأمريكية وأنصاره شخصياً الذين يبدو أنه يحثهم على اتخاذ إجراءات عملية مع أي تحرك جدي ضده، وهو تحذير يجب أن يُؤخذ على محمل الجد مع ارتفاع نسبة العنصريين البيض المؤيدين لترامب.
ثالث هذه الأوراق النواب الجمهوريون أنفسهم الذين ارتبطت شعبيتهم كثيراً بأداء ترامب وشعبيته، فتراجعوا وخسروا أمام الديمقراطيين أغلبيتهم بمجلس النواب في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2018، فترامب يعلم أن الجمهوريين لن يقبلوا بطرده خارج البيت الأبيض وهم على مشارف انتخابات برلمانية، العام القادم، بالتزامن مع الانتخابات الرئاسية، وهو الأمر الذي سيهدد شعبيتهم أيضاً؛ ومن ثم فهم بحاجة إلى وجوده وعرقلة الديمقراطيين مثلما يحتاجهم هو، خاصة أنه إذا نجح في المرور من هذه الأزمة العاصفة فسترتفع شعبيته وشعبية الجمهوريين بشكل عالٍ سيهدد فرص الديمقراطيين الانتخابية بشكل قد لا يمكن تداركه.
ورغم كل ما سبق فجميع التقديرات تتحدث حتى الآن عن صعوبة عزل ترامب نظريا، بسبب سيطرة الجمهوريين على مجلس الشيوخ الأمريكي المنوط به مقاضاة ترامب واتخاذ قرار العزل بأغلبية 66 صوت من أصل مائة عضو 53 منهم من الجمهوريين، بعد إحالة ملف التحقيقات والاتهامات إليه من قبل مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.