كان يفترض به أن يكون الوعد الأبرز قبل إجراء الانتخابات. هذا الوعد الذي قدّر بنيامين نتنياهو، الرجل الذي سيطر على إسرائيل على مدار ثلاثة عقود، أنه سيتمكن به من توجيه الضربة القاضية لخصومه السياسيين في اليمين الذي يدعم الاستيطان. هل نعني أفيغدور ليبرمان صانع الملوك؟ لا أحد سواه.
إلا أن إعلان نتنياهو اعتزامه ضم غور الأردن، ومعه حوالي ثلث الضفة الغربية، لم يسِر على هذا النحو.
إذ كان نتنياهو يتباهى بأنه سيتمكن من ضم جميع المستوطنات في قلب وطنه، وذلك بفضل "علاقتي الشخصية مع الرئيس ترامب".
لكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رفض التجاوب معه هذه المرة.
إقالة بولتون
أصدر البيت الأبيض بياناً يقول فيه إنه لم يطرأ أي تغيير على السياسة الأمريكية في الوقت الحالي، وتأكيداً لهذه النقطة، أقال ترامب مستشاره للأمن القومي جون بولتون، الذي طالما اعتبره الإسرائيليون رجلهم في واشنطن.
وزعم مراسل صحيفة Maariv، بن كسبيت، أن نتنياهو طلب من ترامب الاعتراف بضم غور الأردن مثلما اعترف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان. وكان بولتون مستعداً لذلك، لكن ترامب رفض.
وتجدر الإشارة إلى أن كسبيت ومراسلين آخرين أشاروا إلى أن نتنياهو ليس حتى بحاجة إلى طلب إذن من ترامب لضم غور الأردن، الذي تبين أن له تاريخاً قانونياً مختلفاَ كلياً عن تاريخ مرتفعات الجولان، التي استولت عليها إسرائيل من سوريا.
بل إن جل ما يحتاجه نتنياهو أغلبية بسيطة من الأصوات في الكنيست لضم غور الأردن، لأن القانون الذي يمكّنه من ذلك موجود بالفعل. إذ أجاز نواب يساريون عام 1967 قانوناً يُعدّل مرسوماً يعود إلى عهد الانتداب البريطاني، وهو يخول الحكومة بإصدار مرسوم ينص على المناطق الفلسطينية التي يحق لإسرائيل إخضاعها لولايتها وإدارتها. وقد مكّن هذا القانون حكومة ليفي إشكول من ضم القدس الشرقية عام 1967.
وعلى أي حال، غياب مذهل يتبعه آخر، غيابه هو.
إذ اندفع حراس نتنياهو الشخصيون نحوه لينزلوه عن المنصة في أثناء إلقائه خطاباَ عن حملته الانتخابية في أشدود، في جنوب إسرائيل، حين تسببت صواريخ قادمة من غزة في انطلاق صفارات إنذار الغارات الجوية. وكان ذلك بمنزلة تذكير لنتنياهو وجميع المستوطنين الإسرائيليين بتلك الأرض التي استوطنوها.
وهْم السلطة الفلسطينية
لا يمكن لأي قدر من الضم وقف هذا الصراع. فلم يعد يهم الفلسطينيين الطريقة التي تُحتل بها أراضيهم، أو ما إذا كان ما نسبته 33% سيُنتزع من الـ 20% من فلسطين التاريخية التي تُركت لهم.
إذ يرون أنه نوعاً من السفسطة أن يعرفوا في أي جيب أو بانتوستان أو سجن سيُحتجزون؛ أو ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستُحل؛ أو ما إذا كان الرئيس محمود عباس سيعيد مفاتيح الضفة الغربية إلى أقرب قائد في الجيش الإسرائيلي. فمن المعروف أنه يتعين على عباس الحصول على إذن من الجيش الإسرائيلي كلما أراد التنقل.
السلطة الفلسطينية ليست حاضرة فعلياً، إلا كوسيلة تدفع بها إسرائيل رجال الشرطة الفلسطينية إلى إخلاء الشوارع قبل أن تدخل قواتها إليها لتشن غارات ليلية في أنحاء الضفة الغربية.
وما نسمعه عن استقلال المنطقة (أ) هو إلى حد كبير ضرب من الوهم. وإذا حُلّت السلطة الفلسطينية، فإن الشيء الوحيد الذي سيثير قلق إسرائيل هو مصير قرابة 100 ألف قطعة سلاح تحتفظ بها قوات الأمن الفلسطينية.
ويرى الفلسطينيون أنفسهم أن المؤسسات والهيئات الفلسطينية أضحت غير ذات أهمية إلى حد كبير -باستثناء أنها مصدر للدخل- بسبب طبيعتها الجوفاء. ولا يعنيهم من يضطلع بالاحتلال، أو عدد القوانين التي تحرمهم من هويتهم الوطنية وحقوق ملكيتهم وأن تكون لهم دولتهم.
ومهما حدث، وبغض النظر عن الجيوب العديدة التي تُقام لحصر الفلسطينيين فيها، سيظل الجوهر الديموغرافي لهذا الصراع على حاله، وهو يتمثل في أن أعداد الفلسطينيين الآن تفوق أعداد اليهود الإسرائيليين بين النهر والبحر.
الفصل العنصري الإسرائيلي
عرض نائب رئيس الإدارة المدنية، اللواء حاييم منديس، أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع بالكنيست في ديسمبر/كانون الأول الماضي، الأرقام التالية: يوجد الآن 6.8 مليون فلسطيني بين النهر والبحر (خمسة ملايين في غزة والضفة الغربية، و1.8 مليون داخل إسرائيل والقدس الشرقية). وفي المقابل، يوجد 6.6 مليون يهودي إسرائيلي في إسرائيل، وفقاً لما أعلنه المكتب المركزي للإحصاء.
وقد يتغير جوهر الصراع في حالة واحدة، وهي أن تنظم إسرائيل حملة طرد جماعي أخرى أو تمارس التطهير العرقي، كما حدث عامي 1948 و1967.
وما لم يحدث شيء دون ذلك، لن يطرأ على حياة الفلسطينيين أي تغيير. وهذا يعني أنه مهما صدر من تصريحات في الحملات الانتخابية، فإن اليهود الإسرائيليين في طريقهم ليصبحوا أقلية في ما يزعمون أنها بلادهم، ولن يمكنهم فرض هيمنتهم إلا من خلال نظام الفصل العنصري.
وصحيح أن هذا لن يغير شيئاً من حالة القهر التي فرضت على الفلسطينيين في أرضهم، إلا أنه يغير بالتأكيد الخطاب الإسرائيلي في أوساط النخب السياسية في أوروبا والولايات المتحدة، التي أغدقت عليها إسرائيل أموالاً طائلة.
قبل الضم، وحين كان شعار "الأرض مقابل السلام" لا يزال هو الخطاب السائد لعملية أوسلو، كان بإمكان الطبقة السياسية في اليسار واليمين على السواء داخل بريطانيا والولايات المتحدة وأوروبا تبني رؤى متعارضة لحل الصراع.
إذ كان بإمكانهم التأكيد على أنهم "مؤيدون لإسرائيل"، فيما يعربون في الوقت نفسه عن تأييدهم لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم في دولة فلسطينية مزعومة، لا تقوم أبداً على أرض الواقع.
خسارة الشرعية الدولية
في حالة إسرائيل، كانت الأسطورة التي يرددونها هي أن ثمة ما يُدعى "إسرائيل الأصلية"، التي نالت اعترافاً دولياً -ومن ثم، للأسف، أصبح هناك ما يسمى بالمستوطنات، التي كانت غير قانونية، ولكن ماذا يسعنا أن نفعل حيالها؟ ويصاحب ذلك بالتوازي فكرة أنه لو تمكن الطرفان فقط من التوصل إلى تسوية ما، فقد يمكن التوصل إلى حل يعتمد على تقاسم الأراضي.
ولكن كل ذلك يتغير، حين يصبح الضم هو السياسة الرسمية. إن اللحظة التي تعتبر فيها دولة إسرائيل المستوطنات جزءاً منها، هي اللحظة التي ينتهي فيها وجود "إسرائيل الأصلية". فحينها، ستصبح إسرائيل كلها مستوطنة واحدة. وستخسر دولة إسرائيل شرعيتها الدولية.
إذا كان الضم مدمراً لصورة إسرائيل الدولية باعتبارها دولة أوروبية متقدمة في صحراء يقطنها عرب همجيون وجاهلون وجامحون، فإنه أشد تدميراً لفرص بناء دولة يهودية والحفاظ عليها داخلياً.
لم يكن اعتراف ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل خلال عملية أوسلو هو التنازل الأكبر ضرراً، وإنما التخلي عن الفلسطينيين الذين يعيشون فيها ويشكلون 20% من سكانها.
القتالمنأجلالسيادة
خلق هذا كل أنواع التشوهات. كانت القدس قلب الصراع وعاصمة الدولة الفلسطينية، لكن السلطة الفلسطينية لم يكن لديها أية "سلطة" على المقدسيين الذين يعيشون فيها.
في مراحل كثيرة من عمليات السلام، لم يشكل فلسطينيو الداخل، الذين سُمح لهم بالبقاء، أو من نزحوا نزوحاً داخلياً عند ظهور دولة إسرائيل، أي جزء من المقاومة ضد الاحتلال. حصلوا على الجنسية الإسرائيلية، وسماهم ساداتهم عرب إسرائيل.
يغير الضم كل هذا؛ إذ إنه يقضي بضربة واحدة على كل الجدران القائمة التي بنتها إسرائيل بعناية لتقسيم الفلسطينيين عن بعضهم، من خلال خلق تدرج مراقب من مباني السجون. أصبحت غزة والضفة الغربية وفلسطينيو الداخل وشتات الفلسطينيين في أي مكان شعباً واحداً يقاتلون من أجل السيادة على أرضهم.
يتسبب الضم، دون علم، في تدمير من الداخل للحلم الصهيوني ببناء دولة ذات أغلبية يهودية.
إذ إن هؤلاء القادة الفلسطينيين الذين لم يُغتالوا أو يُعتقلوا كانوا مهمين للحفاظ على الوضع كما هو عليه، وهو الوضع الذي تمكنت إسرائيل في ظله من ضم غور الأردن فعلياً، وإن كان ليس بالتسمية.
ولم يكن الوضع يتعلق بما إذا كان الفلسطينيون قادرين على استخدام وزراعة غور الأردن، أكثر أراضيهم خصوبة الآن. يمتد غور الأردن لحوالي 160 ألف هكتار (395 ألف فدان) ويشكل حوالي 30% من الضفة الغربية. تستغل إسرائيل غور الأردن بأكمله تقريباً لتلبية حاجاتها وتمنع الفلسطينيين من دخول أو استخدام حوالي 85% من المنطقة، سواء كان ذلك للبناء، أو البنية التحتية، أو الرعي، أو للعائلة.
في عام 2016، كان هناك 65 ألف فلسطيني، و11 ألف مستوطن يعيشون في هذه المنطقة. وهذا يعني أن أقلية من السكان مسموح لها أن تجوب 85% من الأرض.
الموت البطيء
لا تحتاج إسرائيل لضم غور الأردن؛ لأنها فعلت ذلك في الأساس.
مع التدهور الشديد الذي تعيشه القيادة الفلسطينية، فإن الأجيال الفلسطينية القادمة ستنظر إلى مشهد مختلف تماماً. ستضطر هذه الأجيال إلى مراجعة استراتيجيتها، وتصحيح أخطاء الماضي، والنظر لأنفسها مرة أخرى بوصفها جزءاً من شعب واحد نزح من أرض واحدة.
فالضم هو موت إسرائيل 1948، الدولة ذات الأغلبية اليهودية.
أي أنه ميلاد دولة أقلية يهودية، يمكنها فقط النجاة عن طريق الكبت، والسيطرة على الأغلبية الفلسطينية. وفعل هذا في قارة ذات أغلبية مسلمة وأغلبية عربية، هو بمثابة انتحار بطيء ومطول.
وبغض النظر عن العديد من القادة العرب الذين يشترونهم، تثير إسرائيل غضب العرب والمسلمين باستمرار أينما كانوا. ولن يستطيع جدار ولا جيش ولا أسطول من الطائرات الآلية ولا ترسانة نووية، ولا أي رئيس أمريكي حماية دولة الأقلية اليهودية على المدى الطويل.
– هذاالموضوع مترجم عن موقعMiddle East Eyeالبريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.