قبل ثلاثة أيام، وعندما كانت الشمس تميل إلى الغروب، أعلن مؤذن الجامع في المنطقة وفاة الحاج أحمد فيصل. وانطلق بعدها رجال الحيّ نحو الجامع وعلى وجوههم علامات الصدمة والدهشة؛ إذ لم يكن الحاج أحمد قد بلغ سن المعاش بعد، لكن سن الموت لا موعد له، ولا أذان.
كان الحاج وكيل وزارة يَشهد له قطاع البريد بأكمله بالكفاءة والنزاهة، حتى إن نساء القطاع اتَّشحنَ بالسواد لثلاثة أيام كاملة بعد وفاته، كما أعلن جميع العاملين إضرابَهم عن العمل تضامناً معه ضد الموت. وتكريماً له وتخليداً لذكراه وُضعت له صورة متوسطة الحجم، عُلق على طرفها الأيسر شريطة سوداء صغيرة، في الممر المؤدي إلى مكتبه، الذي صار يشغله الآن الأستاذ ممدوح عبدالمعطي، ويالشرف الذي ناله الحاج أحمد، فلقد وُضعت صورته جنباً إلى جنب مع صورة الرئيس عبدالفتاح السيسي.
وفي اليوم الثالث للإضراب حدثت مشادّة ضخمة بين مدام نهال زيدان، مسؤولة الخزنة، وبين مواطن، يبدو من قميصه الكاروهات وساعته الكاسيو وحذائه اللامع أنه محاسب في شركة استيراد وتصدير، معترضاً على قرار تعليق العمل وإيقاف مصالح وأحوال المواطنين الذي أخذته الإدارة عن بكرة أبيها. وبدأت الأصوات ترتفع تدريجياً، حتى زاحمت صوت القرآن الصادر من تليفون أستاذ خالد شرف الدين، الصيني.
وانضمَّ عدة مواطنين عديمي الشعور للمشاجرة اللفظية، بينما انبرت مدام نهال للدفاع عن مشاعر وقرار زملائها الموظفين الثكالى. وبينما يجول المواطن في طرقات المصلحة، وقعت عيناه على صورة الحاج أحمد فيصل، رحمه الله، ومن ثم "زعق" وهو يشير بيده إلى صورة الحاج: "هو ده (لفظ نابي) اللي مصالحنا متعطلة بسببه؟"
ساد الصمت ثلاث ثوانٍ، وبدأ العرق يتصبَّب من الجِباه، وصار من الصعب السيطرة على اهتزاز الأقدام، ثم ومن دون مقدّمات ظهرت قوة تدخُّل سريع في باحة المصلحة، وقامت بطرح المواطن أرضاً، ووضعت في يده الكلبشات، ومن ثم تم اقتياده إلى جهة غير معلومة.
لقد اعتقد قائد القوة أنَّ المواطن عديم الشعور كان يتحدَّث إلى صورة الرئيس السيسي وهو يتلفظ بذلك اللفظ النابي، ومنذ ذلك الحين اختفى ذلك الشخص من على وجه الأرض، كما اختفى أثره من كافة السجلات وأنظمة التشغيل التابعة لكافة الوزارات والمصالح الحكومية، لقد ذاب تاريخه في حمض ثاني أوكسيد الكبريت.
أما مثال النزاهة والكفاءة، الحاج أحمد، فلقد حصَّن نفسَه جيداً ليوم لقاء ربه، فلقد اكتسب لقب "الحاج" بعدما أدَّى فريضة الحج ثلاث مرات، واعتمر خمس مرات، منها عمرتان في شهر رمضان الفضيل. وكان الحاج محظوطاً للغاية في حياته؛ إذ أدَّى جميعَ هذه الفرائض بعد فوزه بقرعة الحج والعمرة مع وزارة الداخلية، وكان الجميع يتبرَّك به في عملية التقديم، ويذهبون إليه ليملأ لهم الاستمارات مقابل 2000 جنيه مصري فقط لا غير.
في ليلته الأولى في القبر، كان يتوقع الحاج أحمد حضور الثعبان الأقرع ليعاقبه على عدم تأديته للفروض الخمسة في شبابه، مع أمل خافت بأن يغفر له ربه ذلك، رحمةً منه، لكن الثعبان لم يأتِ في الليلة الأولى، ولا الثانية، حتى ظنَّ الحاج أحمد أنَّ قبرَه سيصبح روضةً من رياض الجنة عمَّا قريب. لكن في اليوم الثالث شعر الحاج أن أحدَهم يتسلَّل إلى قبره بعدما انتهت زوجته من قراءة بعض الآيات والأدعية، ووزعت بضع "قرص" محشوة بالعجوة على الفقراء ساكني المقابر. ارتعدت فرائصُ الحاج، وظنَّ أنَّ الثعبان قد حضر، وبدأ في الصراخ، لكن صوته لم يكن يخرج من حنجرته، وكانت قواه خائرةً تماماً ليهمّ بمغادرة القبر.
استطاع بجهد يُحسد عليه أن يفتح عينيه ليرى ما لم يحسب حسابه أبداً، لقد رأى نفسَه بين يدي دفتر الحضور والانصراف يطالبه بالتركيز؛ لأن الحساب قد بدأ الآن.
أشعل الدفتر لفافة تبغ، وافتتح حديثه قائلاً: في يوم السادس عشر من أبريل/نيسان، جئت متأخراً 3 ساعات كاملة، لكن "إمضتك" كانت حاضرة في الساعة الثامنة والنصف، هل يمكنك أن تفسر ذلك؟
تلعثم الحاج ولم يرد.
قال الدفتر: خلال 20 عاماً من الخدمة في قطاع البريد، غبت عن العمل لـ 2210 أيام دون عذر أو إذن، ومع ذلك تقاضيت راتبك كاملاً عنها، هل يمكنك تفسير ذلك؟
أكمل الدفتر: كما أنك غادرت مقرَّ العمل بعد 3 ساعات فقط من حضورك في 1101 مناسبة، هل لديك أي توضيح لمثل هذا الفعل المشين؟
والحاج على رأسه الطير لا ينبس ببنت شفة.
ومضت الأسئلة تباعاً من الدفتر، والحاج لا يملك ما يدافع به عن نفسه، ثم أشار الدفتر بيده اليمنى نحو مدخل القبر، ليحضر على الفور كل من جهاز البصمة والتاكسي الفيرنا الخاص بالحاج، ثم أصدر الدفتر قرارَه بذهاب الحاج أحمد إلى الدرجة الوسطى من النار، بعدد الساعات التي تغيَّب عنها من العمل. وطلب من التاكسي إيصاله إلى مكانه في الجحيم، وشدَّد على جهاز البصمة التأكد من أن الحاج قضى ساعاته المحددة في النار، ومن ثم أكد الدفتر على التاكسي أن يُقلّ الحاج أحمد من النار إلى الجنة ونعيمها إلى الأبد؛ إذ إنه كان مثالاً للمواطن الغبي التعيس الذي لم يكتشف أبداً سر تعاسته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.