لا تجتمع حرية تداول المعلومات مع الاستبداد السياسي في جملة مفيدة، فشبكة الإنترنت توفر أرضية خصبة لهذا
التداول خارج سيطرة الأنظمة السلطوية، الأمر الذي يفرز قطعا تنسيقا وتشبيكا، فضلا عن زيادة في الوعي ومن ثم الحركة والفعل. لذلك، لا تجد أي حراك سياسي في العالم خلال العقد الأخير إلا وكان الإنترنت حاضرا بقوة فيه، من قبل الثورات العربية عام 2011 وحتى الثورة السودانية هذا العام 2019.
ليس مستغربا إذا أن يلجأ المجلس العسكري في السودان مثلا لقطع الإنترنت في أتون محاولته للسيطرة على حركة الشارع الغاضب، ويعتبر أن الإنترنت تهديد للأمن القومي.
كان للإنترنت دور كبير في الثورات العربية منذ عام 2011، من ناحية مساحة الوعي وتنظيم حركة الناس، حتى أصبح مضرب الأمثال في العالم كله، وبدأ الجميع التعامل معه كسلطة خامسة يجب أن يُحسب لها ألف حساب. وقد استخدمت قوى الثورة المضادة الإنترنت في رد فعل عكسي عبر ما يسمى باللجان الالكترونية، لتعزيز الاستقطاب والشقاق الأهلي، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، لكن فاتها أن منحنى الشقاق والعراك الالكتروني بين الفرقاء سيصل حتما إلى محطة أخيرة؛ تصبح فيه المآسي العامة همّا مشتركا يطال الجميع. ولأن الفضاء السياسي مغلق، فإن الناس تلجأ للتنفيس عبر الإنترنت.
وهنا بدأت موجة أخرى من تطويع الإنترنت وتدجين المستخدمين في عدد من البلدان العربية، رغم أن محاولات السلطات في دول العالم المختلفة لاحتواء ظاهرة الإنترنت وتطويعها لخدمة الأنظمة تبوء دائما بالفشل، مع استثناء نماذج مغرقة في السيطرة مثل الصين وكوريا الشمالية. عدا ذلك، فإن كل محاولات الأنظمة للتحكم في هذه الشبكة تبوء بالفشل.
النظام المصري بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو عام 2013، والذي تحل ذكراه هذه الأيام، حاول على مدار سنوات كاملة التحكم في ما ينشر على الشبكة العنكبوتية، من أجل السيطرة شبه الكاملة على المصريين، لكنه يتقدم خطوة ويتراجع عشر خطوات. أحد أبرز الأمثلة على ذلك مسألة حجب المواقع الإخبارية، والتي تجاوزتها كثير من المواقع عن طريق الروابط البديلة. لكن لا تزال المحاولات مستمرة؛ حيث أوصت لجنة الشكاوى بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر بتغريم أحد الصحفيين عشرة آلاف جنيه بسبب انتقاده لاتحاد الكرة المصري ونظام بيع تذاكر أمم أفريقيا على صفحته في فيسبوك، كما ألزمته بكتابة اعتذار على صفحته الشخصية، بالإضافة لتغريم صحفي آخر بمؤسسة الأهرام مبلغا وقدره 15 ألف جنيه لأنه انتقد نائب وزير التعليم، على حد قول اللجنة. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على قوة الإنترنت، حتى مع امتلاك أي نظام وسائل القوة والسلاح والسيطرة في الفضاء الماضي، فضلا عن السيطرة كل وسائل الإعلام تقريبا، الحكومية منها والخاصة.
وبعد الانقلابات المتوالية على إرادة الشعوب الحرة في أكثر من بلد عربي، يبدو أن الإنترنت هو آخر الحصون التي تحاول قوى الثورة المضادة اقتحامها. وبما أن موجة الاستخدام الغاضب للإنترنت كساحة للمعارضة قد آتت أكلها قبل ثماني سنوات، فإنه ينبغي أن يصبح الاستخدام الواعي للإنترنت هو شعار الفترة الحالية. فالأنظمة تنبهت أخيرا بعد سبات طويل لقوة الإنترنت في التشبيك والتنسيق، واستخدام الإنترنت في التواصل مع الشعوب المختلفة وتعلم مهارات التسويق الالكتروني الدولي، لكنها ستحتاج لزمن طويل كي تصدر تشريعات تجرم نشر الوعي والثقافة عبر الإنترنت. فمزيد من الإنترنت يعني مزيدا من الحرية، ومزيد من الوعي باستخدام الإنترنت يعني مزيدا من الوعي بكيفية ممارسة الحرية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.